بقلم / الشيخ جمال الدين شبيب
إن الاختلاف بين الناس يقع في كثير من جوانب الحياة ونظمها؛ بسبب التنوع في الأفكار وأساليب التربية وعادات المجتمعات، وكذلك الاختلاف في الرؤى والاتجاهات والميول والآراء، وعدم وضوح الرؤية للموضوع من كل جوانبه، فالكل يدرك الموضوع من الزاوية التي ينظر إليها، وربما ينظر أحدهم من زاويتين أو أكثر، وربما ينظر من هو أوسعهم رؤية للموضوع من جميع زواياه. وما أحسن من قال: "إن الحقّ لم يُصبه الناس من كل وجوهه، ولم يخطئوه من كل وجوهه، بل أصاب بعضهم جهة منه، وأصاب آخرون جهة أخرى".
في صيدا اليوم بل في لبنان خلاف سياسي حاد يلبس لبوس الدين أو المذهب وإن كانت حقيقته لا تتعدى المصالح الشخصية والمكاسب السياسية. ووإننا وإن كنا لا نتصور بحال من الأحوال أن يكون أبناء الوطن على رأي واحد؛ لأنه لا يصحّ لأحد أن يصادم طبيعة البشر ( ولا يزالون مختلفين ) الرأي موجود والرأي الآخر موجود ولكن عندما يقود الاختلاف إلى تدمير الهيكل بمن فيه تلكم هي الفتنة والمصيبة الكبرى..
وعندما لا يضبط البعض انفعالاته ويغالي في مواقفه ويندفع بغرائزية قاتلة شحناً وتحريضاً وتحريشاً بين المسلمين بدل أن يستثمر سُنّة الاختلاف في تلاقح الأفكار، وتبادل المعلومات، وفضّ النزاعات، وتطوير مستوى الأداء بالتعرف على الرؤى المختلفة، واستخدام ذلك في إثراء المواقف والتعاون والتساند والتآزر والتكامل من أجل مصلحة الوطن الجامعة .. ندخل جميعاً في النفق المظلم ونعيش الدوامة المقلقة في كل صباح ومساء ونرى ما نحن عليه اليوم من ضنك وهمّ وتنازع وفرقة لا تخدم إلا عدونا الاسرائيلي المتربص بنا..
الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا اختلفوا والرسول- صلى الله عليه وسلم- بينهم، لكن كان هناك أدب لاتسفيه ولا تكفير ولا تنفير .. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: "لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ"، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: "كِلاكُمَا مُحْسِن ولا تختلفوا فإنَّ من كان قَبْلَكُم اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا"،
والخلاف في أركان الوضوء قام على أساس تفسير حرف الباء في قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) (المائدة: 6)، كما وقع الاختلاف في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح وصلاة الخوف وتكبيرات العيد.
والخلاف في صلح الحديبية حصل وجاء ليُرسِّخ حق الفرد في إعلان رأيه والدفاع عنه في حُريَّة كاملة وأمنٍ تام، وكانت وصيته الخالدة- صلى الله وعليه وسلم- لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري- رضي الله عنهما- ولنا جميعًا من بعدهما "بَشِّرا ولا تُنَفِّرَا.. يَسِّرا ولا تُعَسِّرا.. تطاوعا ولا تختلفا".
لا بد أن تكون هناك مُسَلَّمات بين المختلفين يجب أن يُقِرُّوا بها، وتكون حدًّا فاصلاً لا يَصِحُّ تجاوزه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
• أن لا نقبل بأن تكون لنا مرجعية في كل ما نهب إليه رأي غير المرجعية الإسلامية.. (ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ) (الشورى: 10)، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59). (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء : 65). هذه أصول وقواعد، وعليها تُبْنَى كل الأحكام الفرعية والاجتهادات وتحل كافة المنازعات ...
• إن التدين يجب أن يحفظ للدين نَقاءه وصفاءه ووسَطِيَّته، وعلى كل متديّن أن يستوعب كل المذاهب الفقهية ويسير وفقاً لتعاليم الإسلام ومنهجه المعتدل المتوازن..
• على كل المختلفين أن يدركوا أن حب الوطن من الإيمان، وأن مصلحته تعلو على كل المصالح، وعلينا جميعاًأن نُضَحِّي في سبيله بمصالحنا الشخصية، ونذود عن وحدة بنيه وسلمه الأهلي بأرواحنا وأموالنا.
• أنّ الشعب اللبناني وصيدا جزء منه وأهلها مكوّن أساسي من مكوناته ..هو شعب عظيم حُرّ رشيد، وأهل وصيدا التي طردت المحتل الاسرائيلي وأذلته لا يصح لأحد أن يفرض نفسه عليها بالقوة والترهيب أو يتحدث باسمها وكأنها قاصرة لا رأي لها ولا موقف لعقلائها دون أن يفوضه في ذلك أحد.
إن الاختلاف داء به هلكت الأمم السابقة، وقد حذَّر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته منه أشد التحذير، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
يا أهنا يا أحبابنا علينا أن نحرص جميعًا على وحدة المدينة والوطن وأهل السنة والجماعة يجب أن يكونوا صمام أمان في هذا الوطن لا صاعق تفجير لفتنة لا تبقي ولا تذر..، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- مدحه ربه فقال (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128) فأين الرحمة والحرص على جماعة المؤمنين فيما نراه من وقائع وتحريض وشحن وتهديد ووعيد.
إننا لا ننفي وقوع الاختلاف في الرأي وهو أمر طبيعي ، وإنما نُحذِّر من الخلاف الذي يؤدي إلى تفريق أبناء المدينة الواحدة والوطن الواحد ، عبر إيقاع الخصومة والعداوة والتنازع فيما بينهم، وبدلاً من أن ننصرف إلى العمل والبناء والارتقاء، ومواجهة العدو المتربص بنا جميعاً .. يشغلنا شياطين الإنس والجن بعداوات مفتعلة يستجلبون من خلالها الفتن والنزاعات التي لا تجرعلى صيدا ولبنان إلا الويلات ..
وصدق الله العظيم ..(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج: 52).