يرى كثير من أهل العلم أن مبدأ فرض
الجزية على أهل الكتاب الذين يعيشون في ظل الحكم الإسلامي يأتي من باب المعاملة بالمثل
كالعبودية والرقيق والسبايا، فحاكم مسلم يرفعها وحاكم آخر يقرها بحسب المصلحة والمعاملة.
وليس نظاماً أساسياً من أنظمة الدولة في الإسلام بل يتطور بتطور العلاقات والظروف التي
تجعل الدولة في حل من إسقاطها، حين تكون مصلحة الدولة في ذلك.
وللحاكم المسلم أن يراعي هذا بما يتفق مع
مفهوم الدولة في العصر الحديث، والقائم على عقد اجتماعي بين الدولة والمواطن، ولذلك
تقبل مسمّى الضريبة أو ما في حكمها ولا تقبل الجزية فئات من المواطنين الذين يرتبطون
برابطة الولاء للدولة مع مخالفتهم لجمهور الشعب في عقيدته. وقد يفرض عليهم ضرائب أو
ما في حكمها استحقاقاً مجتمعياً عليهم دون إهانة لآدميتهم وإنسانيتهم.
وعطفاً عليه يجب تحرير كتب التراث من أخطاء
سبق أن ارتكبت باسم الاسلام بتأثير من صراعات سياسية وعسكرية عنيفة أرخت بظلالها
على تاريخ المسلمين. من ذلك ما ورد من أساليب الإهانة والصفع والرفس واللبس والزي المخالف،
وكل أحكام أهل الذمة التي لا يقرها الإسلام، تفسيراً لقوله تعالى: حَتَّى يُعْطُواْ
الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) سورة التوبة. لأن كل ذلك مندفع بما قرره
العلماء من أن الجزية لا تفرض إلا على من أعلن عداءه للدولة وهو من غير أبنائها.
وخير دليل على أن مفهوم الجزية ليس نظاماً
أساسياً أن سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تصرف فيه بما يؤكد رعاية المصلحة في
إقراره من عدمه. قال ابن قدامة في المغني: ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب، وتؤخذ
الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم، مثليْ ما يؤخذ من المسلمين.
وبنو تغلب بن وائل، من العرب، من ربيعة
بن نزار، انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر إلى بذل الجزية، فأبوا، وأنفوا،
وقالوا: نحن عرب، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة. فقال عمر: لا آخذ من
[ص: 275] مشرك صدقة. فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إنّ
القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم، وخذ منهم الجزية
باسم الصدقة. فبعث عمر في طلبهم، فردهم، وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، ومن
كل ثلاثين بقرة تبيعين، ومن كل عشرين ديناراً ديناراً، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم،
وفيما سقت السماء الخمس، وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر. فاستقر ذلك من قول
عمر، ولم يخالفه أحد من الصحابة، فصار إجماعاً.
جاء في بحث ( الجزية في ظل الدول الإسلامية
اليوم ) لمؤلفه الدكتور حمزة عبد الكريم حماد، عرض المؤلف هذه المسألة وذكر آراء الفقهاء
المعاصرين الذين تكلموا في هذه القضية ووقف على أقوالهم، وحكى إجماعهم على سقوط الجزية
عن أهل الكتاب في هذا العصر، وعطفاً عليه يحرم تهجيرهم من بلادهم فهم مواطنون من الدرجة
الأولى ولكن عليهم أن يراعوا مشاعر المسلمين وهذا حق على ولي الأمر. وقد اختلف الفقهاء
المعاصرون في علة ذلك على النحو التالي فقالوا:
أ- الجزية لا تفرض إلا على من قاتل، أما
المواطنون من غير السلميين ممن لم يحاربوا الدولة فلا تفرض عليهم، ومبنى ذلك على أنّ
القتال لا يشرع في الإسلام إلا للدفع فقط فنقاتل من قاتلنا، بدليل قوله تعالى: وَقَاتِلُواْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ (190) سورة البقرة، وقد يكون هناك ملحوظات
على تعميم هذا يحتاج إلى علماء ربانيين يقررون ذلك.
ب- الجزية إنما شرعت في الإسلام بدل الدفاع
عنهم والحماية لهم. ولذلك جاء في عهد خالد بن الوليد لأهل الحيرة: «أيما شيخ ضعف عن
العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت
جزيته وأعيل من بيت مال المسلمين وعياله».
وقد طبق عمر رضي الله عنه هذا المبدأ الإسلامي
العظيم حين مر بشيخ كبير يسأل الناس الصدقة، فلما سأله وعلم أنه من أهل الجزية، أخذ
بيده إلى بيته وأعطاه ما وجده من الطعام واللباس، ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول
له: «انظر إلى هذا وأمثاله فأعطهم ما يكفيهم وعيالهم من بيت مال المسلمين فإنّ الله
يقول: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ (60) سورة التوبة والفقراء
هم المسلمون، والمساكين هم أهل الكتاب».
وبناءً عليه فقد أجمع الفقهاء الذين استدل
بقولهم الباحث الدكتور حمزة، بأنه في العصر الحديث يشترك الذميون في الدفاع عن الوطن
مع المسلمين فتسقط الجزية عنهم أو يمنع وجوبها أصلاً، ويستدل صاحب هذا القول بمجموعة
من الأحداث التاريخية. وقد يعبّر بعضهم عن الجزية بأنها بدل مالي عن الخدمة العسكرية
المفروضة على المسلمين.
يذكر أن أبا عبيدة بن الجراح لما فتح أنطاكية
ولىّ عليها (حبيب بن مسلمة) الفهري فغزا الجُرجُومة فلم يقاتله أهلها، ولكنهم طلبوا
الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام
وأن لا يؤدوا الجزية، ودخل من كان في مدينتهم في هذا الصلح، كما في فتوح البلدان للبلاذري.
ج- علل بعض الفقهاء بأنّ الدول الإسلامية تعرضت للاحتلال الأجنبي؛ وعجز المسلمون عن
حماية أنفسهم فضلاً عن ذمتهم وهذا مسقطٌ للجزية.
وقالوا: يجوز للإمام أن يعفي أهل الكتاب
من المسيحيين واليهود منها جميعاً كما فعل أبو عبيدة حين أسقط الجزية عن أهل السامرة
بالأردن وفلسطين، وكما أسقط عمر الجزية على ملك شهر براز وجماعته لقاء اتفاقه معهم
على قتال العدو، وكما أسقط معاوية الجزية عن سكان أرمينية ثلاث سنوات، كما يجوز إعفاء
كل ذمي دخل في الجيش الإسلامي أو قدم خدمة عامة للدولة، وهي أحكام مسلّمة معروفة في
الفقه الإسلامي.
وهذا من سماحة الإسلام ويسره وخلود شريعته عبر اختلاف الزمان والمكان
..والله تعالى أعلم.
أين هذا الكلام مما يفعله بعض الغلاة والمتطرفين من قتل وتهجير للمخالفين..؟؟
( إن في ذلكك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق