الأربعاء، 13 مايو 2009

من فقه الدعوة : الاختلاف لا يفسد المودة

مقولة كثيراً ما نرددها لفظا فقط و لا نعمل بها ." الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ". وكل شيء بالنسبة لنا أصبح ينحصر في حدين لا ثالث لهما: اما خطأ او صواب . و لا تكاد توجد عندنا إمكانية لقبول خيار آخر ، يقوم على الجمع بين عدة آراء صحيحة تتكامل فيما بينها وتنتج خياراً آخر صائباً.

رأي لا حكم إلهي

أعجب مافي الأمر أننا بتنا نُسقط آراءنا في النوازل على الحكم الشرعي فنقول هذا حكم الله..ولا نتواضع فنقول هذا قولنا وما أدانا اليه اجتهادنا في المسألة! نفعل ذلك وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا التأول المذموم على الله .. فقد جاء في صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : ( .. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ ).

ورغم ذلك يتأول كثيرون بعلم وبغير علم على الله .. حتى أصبح أحدنا لا يعجبه أن يرد له رأي ، أو يورد له عليه .. وهذا المرض المزمن ليس بجديد بل تجده شائعاً قديماً وحديثاً ..وإليه يشير ابن تيميه -رحمه الله- بقوله :" ..كثير من النَّاسِ يَنْسُبُونَ ما يقولونه إلى الشَّرْعِ وليس من الشَّرْعِ ، بل يقولون ذلك إما جَهْلاً وَإما غَلَطًا وَإما عَمْدًا وَافْتِرَاءً. " .. فكيف يمكن الحوار مع من يعتقد بأن قوله لا يرد؟! ولا يرد – بكسر الراء –عليه؟! والجهل يعيي، و الخطأ يصحح ، أما العمد والافتراء فهو داء ما بعده داء!

وما ينبغي أن نفهمه ونطبقه عندما تختلف أفهامنا حول أمر أو نازلة هو التالي: إن أفهام الرجال ليست وحياً، والمدارس الفقهية، أو الدعوية ليست هي الإسلام، وإن كانت تنتسب إليه وترجع إليه. فلا نتعصب لرأي ولا نفترق لنازلة. فإن كنا في جماعة فلزوم ما تختاره الجماعة بعد الدرس والتمحيص حتم للمتبع ، ومخالفتها حق لمن شاء لا يقتضي ذماً ولا تجريماً.

تجريم المخالف

بل الأعجب من ذلك .. أن البعض منا أصبح يجرم الاخر لاختلافه معه في الرأي.بحيث أصبح الاختلاف صار جريمه بحد ذاته. بينما هو سنة إلهية ثابتة " ولا يزالون مختلفين " تبعاً لتعدد المدارك والأفهام . ورغم الوحدة الثقافية التي حرص الاسلام على تعميمها من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة . بحيث أصبح للأمة قاعدة مرجعية تؤوي إليها عند الحاجة .. لكنه ترك هامشاً واسعاً للعقل والتفكير والاختلاف.. فلماذا نحجر على أنفسنا ونضيق ما وسّعه الله؟!
قد نختلف حول الأصح والأصلح لزماننا عندما تتعدد الخيارات ولكن لا نفترق ..ولا يظلم بعضنا بعضا ..ولا ينهش بعضنا لحم بعض ..بل يعرف يعرف أحدنا فضل من يخالفه ولا ينكره ويثني عليه وهو يخالفه .. انظروا الى إمام أهل السنة الامام أحمد يقول : "ما عبر الجسر إلينا أفضل من إسحاق، وإن كنا نختلف معه في أشياء؛ فإنه لم يزل الناس يخالف بعضهم بعضا." وهذا من فقه هذا الإمام وتقواه. أما كثير من المختلفين فلو استطاع أحدهم أن يستميل إليه السلطان ليتقوى به على خصومه ومخالفيه لفعل ولا يرقب فيهم إلا ولا ذمة!

هجر المخالف

في مسائل الخلاف لا تأثيم ولا هجران، بل تعدد للأراء يسع الجميع ولا يشتت شملهم ولا ينقض غزلهم. وإن كان اتباع الهوى يهوي بأصحابه .. الناس يختلفون نعم ولكن لا يتدابرون ولا يهجر بعضهم بعضا بل يعذر بعضهم بعضا .. كذلك علمنا الإسلام .. وهذا مذهب أهل السنة: أنهم لا يرون تأثيماً لكل من اجتهد في المسائل كلها من غير تفريق بين الأصول والفروع، فمن استفرغ وسعه في معرفة مراد الله عز وجل ، وكان أهلاً لذلك، فإنه لا يأثم بهذا الاجتهاد بل هو بين أجر وأجرين، فلا تأثيم في مسائل الاجتهاد، ولا ينبغي أن يكون ثمة تهاجر بين المؤمنين. كما ذكره ابن تيمية رحمه الله.

اتهام النوايا

وثمة مرض خطير وداء وبيل يجعلنا أكثر تباغضاً وأعمق تباعداً وتدابرا.. أن نتهم المخالف في نواياه والنوايا سر مكنون لا يعلمه إلا الله. فنتقول على المخالف بما لم يقله ، ونتعب أنفسنا فيما لا طائل منه ولا وصول إليه.. وهذا مخالف أشد المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة القائل بالأخذ بالظواهر، والله يتولى السرائر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ). وقد أسرف قوم في هذا الباب حتى هلكوا وأهلكوا ، ونقضوا غزلهم من بعد قوة أنكاثاً.

الاختلاف لا يفسد المودة

في زمن تفرق فيه الناس وكثرت المشارب والموارد ، لا يصح منا أبناء الجيل الإسلامي الرائد أن نختلف فنفترق ونتباعد ، أو نهوي في مدارك البغض ومجانبة الانصاف. ومن الإنصاف المطلوب أن تقبل ما لدى المخالف لك من الحق والصواب، حتى لو كان فاسقاً-بنظرك- أو مبتدعاً، بل حتى لو كان كافراً.فكيف بمن آخى الإسلام والعمل لنهضته بينك وبينه وإن تفرقت الدروب واستصعب الذلول.
حدث الأعمش عن زِرّ بن حُبيش. وكان زر بن حُبيش علوياً؛ يميل إلى علي بن أبي طالب، وكان أبو وائل عثمانياً يميل إلى عثمان، وكانوا أشد شيء تحاباً وتوادّاً في ذات الله عز وجل، وما تكلم أحدهما في الآخر قط حتى ماتا... رحم الله سلفنا الصالح ورزقنا حسن الاتباع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق