يقلم الشيخ / جمال الدين شبيب
تعوّد بعض الناس ممن هم في موقع اجتماعي أو ديني أن يخوضوا في عيوب الناس فتراهم يجيدون نشر للغسيل الوسخ ويتهكم بعضهم على بعض شأنهم كشأن العامة ممن لا دين يحجزهم ولا خُلق يردعهم .
وتلك والله هي القاصمة التي تجعل من أولئك وأمثالهم أولى بالعودة إلى الصفوف الأولى لتعلم أبجديات الإسلام فضلاً عن أن يسوّدوا ويقدّموا في المجالس.
والله تعالى يقول (وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين) ، فكانت هذه التذكرة أوجهها لنفسي ابتداءً. ولكل من سوّلت له نفسه أن يقع في عرض أخيه. لعل الله ينفعنا بالذكرى ويجعلنا ممن تشغله عيوبه وسعيه في إصلاحها عن تتبع عيوب الغير.. والله المستعان.
أيها الأحبة
الإنسان العاقل هو الإنسان الذي ينشغل بعيوب نفسه فيعمل على إصلاحها فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طُوبَى لِمَنْ شَغْلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ. أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ).
قال أهل العلم من شرّح الحديث:طُوبَى مَصْدَرٌ مِن الطِّيبِ، أَو اسْمُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تكون في الجنة لِمَنْ شَغَلَهُ النَّظَرُ فِي عُيُوبِهِ، وَطَلَبِ إزَالَتِهَا أَو السَّتْرِ عَلَيْهَا عَن الاشْتِغَالِ بِذِكْرِ عُيُوبِ غَيْرِهِ، وَالتَّعَرُّفِ لِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِن الْعُيُوبِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَدِّمَ النَّظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعِيبَ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ مَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ.
وفي هذا الحديث الشريف توجيه رشيد لمن يريد السير إلى الله تعالى، فيقطع المفاوز المعوقة حتى يذوق طعم الوصول، وذلك باتباع الآثار المحمدية، والتعاليم الإسلامية.
لأن من شغله عيبه عن تتبع عيوب غيره، اجتهد في التخلص من رذائل الذنوب، ومعوقات المعاصي، والآثام. فمثل هذا يرجى أن يتخلى منها، فيصبح بهذه المجاهدة نقياً صافياً من أدران ذنوبه.
ولا شك بأن من تخلى من وضر الذنوب، فإنه سيتحلى بفضائل الأخلاق، التي أولها طاعة الله تعالى، وفعل ما يقرّبه إلى حضرته سبحانه.
ومن شغل وقته بإصلاح نفسه، سلم من تتبع عيوب الناس.ومن سلك هذا السلوك المستقيم، في السير إلى الله تعالى استحق جائزة ((طوبى)) التي هي:
إما شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. وإما درجة عالية في الجنة، والله الموفق.
أهمية الاشتغال بعيوب النفس
ومن الأمور المهمة جداً التي تعين الإنسان على الابتعاد عن الغيبة أن يشتغل بعيوب نفسه فيعمل على إصلاحها وتهذيبها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه).
والقذى: هو ما يقع في العين أو الماء أو الشراب من التراب أو التبن أو القش أو أي شيء من هذا، هذا هو القذى، ودائماً يكون شيئاً صغيراً، أما الجذع فهو واحد جذوع النخل، وهو كبير بالنسبة للقذى.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: إنك أيها الإنسان تنشغل بعيب الناس مع أن فيك ما هو أخطر وأشد جسامة من عيب أخيك، فإذا أردت أن تنتقد أخاك في الإسلام، وتدقق حتى ترى منه أدق العيوب وتنتقد من أجلها، ففي عينك الجذع ولا تراه، لكنك تدقق في رؤية عيب أخيك!وتتغافل عن إصلاح عيب نفسك.
فالإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به. ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس، لكف عن أعراض الناس وسد الباب إلى الغيبة.
ومعروف في علم النفس حيلة الإسقاط، والإسقاط: إنسان يشعر بنقص معين أو هو يعمل ذنباً معيناً فيدافع لا شعورياً عنه، حتى يبرئ نفسه من هذا الذنب، فيرمي به الآخرين.
والمولع بذم الناس فيه عيوب، لكن هو لا شعورياًَ يحاول أن يدفعها عن نفسه، وينفيها بأن ينتقص الآخرين، فلو علم ذلك لأدرك أنه إذا أكثر ذم الناس فهو يكشف عن العيوب المستكنة في نفسه.
قال بعض العلماء: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينه عن عيبه عمى. أي هو أعمى عن رؤية عيب نفسه، لكن بصره حاد عندما يريد أن يرى عيوب الآخرين!
من كلام السلف في الاشتغال بعيوب النفس
من أجمل ما مرّ معي من كلام السلف في هذا المقال قول الإمام أبو حاتم ابن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه.
فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه.
فمن سنة القتال: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، فابدأ بالعدو الأقرب عن العدو الأبعد، فنفسك التي بين جنبيك هي العدو الأول أو الأقرب إليك، فاجتهد بمجاهدتها أولاً.
ويقول: وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه. وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه.
ومن عاب الناس عابوه، يقول الشاعر:
المرء إن كان عاقلاً ورعا ً# أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله # عن وجع الناس كلهم وجعه
وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ذكروا رجلاً فقال: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك.
قال أبو البحتري العنبري :
يمنعني من عيب غيري الذي #أعرفه عندي فوق العيب
عيبي لهم بالظن مني لهم # ولست من عيبي في ريب
إن كان عيبي غاب عنهم# فقد أخفى عيوبي عالم الغيب
يعني: يمنعني من ذكر غيري بعيوبه ما أعرفه في نفسي من العيوب.
قوله: (عيبي لهم بالظن مني لهم) يعني: عيبي لهم بأشياء مظنونة، لكن أنا على يقين من عيبي إن كنت في حالة ظن من عيوبهم.
وعن بكر قال: تساب رجلان فقال أحدهما: حلمي عنك ما أعرف من نفسي. يعني: الذي يجعلني أحلم وأصبر ولا أرد عليك أنني أعرف من نفسي عيوباً أكثر من التي تعيرني بها.
وقيل للربيع بن خيثم : ما نراك تغتاب أحداً، فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذنب الناس، ثم أنشد:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها # لنفسي من نفسي عن الناس شاغل
ولقي زاهدٌ زاهداً، فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله، قال الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي في ما أعلم من نفسي شغل عن بغضك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق