الخميس، 31 أغسطس 2017

وقفة عرفة ..ماذا تعني؟

إعداد/الشيخ جمال الدين شبيب
...إنه المشهد العظيم الذي يباهي به الله عز وجل الملائكة، حيث يقف ملايين الحجاج على جبل عرفات متضرعين لله عز وجل أن يتقبل منهم الحج وأن يغفر لهم ذنوبهم في ذلك اليوم العظيم، ثم يشهد الله عز وجل الملائكة بأنه قد غفر لخلقه في يوم عرفة، أنه اليوم الأكثر عتقا من النيران ..يوم المغفرة.
ولقد اطلق على جبل عرفات هذا الاسم لأنه شهد بداية تعارف آدم وحواء عقب خروجهما من الجنة إذ كان ذلك على جبل عرفة، لذلك سمي بـ “عرفة”.
ويكون الوقوف في اليوم التاسع من ذي الحجة ويأتي بعد يوم التروية، ويمثل ركن الحج الأكبر، حيث يتوجه الحاج من منى ليقف على عرفات ويجمع بين صلاة الظهر والعصر، ثم ينفر من على جبل عرفات مع غروب الشمس ليتوجه إلى مزدلفة يصلي صلاة المغرب والعشاء جمع تأخير.
وقد دعا النبي محمد (ص) المسلمين من غير الحجاج الى صوم يوم عرفة حتى ينالوا من ثواب هذا اليوم العظيم وتكفير عامين من الذنوب في هذا اليوم الذي تشهده الملائكة قبل حلول عيد الأضحى المبارك .
فقد روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده. والحديث يدل بظاهره على أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين.
إن الدعاء في يوم عرفة له فضل جميل وسوف يكون الدعاء مجاب بإذن الله تعالى، إذا أخلص العبد الدعاء لربه فسوف يتحقق ما يطلبه من الله، ويكثر المؤمن من الدعاء بالمغفرة والجنة وحسن الخاتمة ولأمته ولوطنه في هذا اليوم المبارك.
وقد وصفَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الذي رواه التّرمذيّ بأنّ خير الدّعاء دُعاء يوم عرفة ونصّ الحديث :(خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْم عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
سوف يبدأ حجاج بيت الله الحرام لتأدية أول أيام مناسك الحج في الثامن من ذي الحجة يوم التروية، حيث المبيت في منى ليستعدوا في اليوم التالي للذهاب الى عرفة في اليوم في التاسع من شهر ذي الحجة، وله ثواب عظيم عند صيام غير الحاج من تكفير الذنوب، ولقد أمرنا الرسول فيه بالصدقة والصيام والذكر.

فهنيئا لنا هذا اليوم المبارك وكل عام وانتم بخير.

حكم لبس (باروكة الشعر للنساء)

إعداد / الشيخ جمال الدين شبيب
بداية قبل الكلام على الباروكة لا بد من الكلام عن حكم وصل الشعر، وللعلماء في ذلك تفاصيل، وخلاصة كلامهم في ذلك أنه يحرم وصل شعر المرأة بشعر نجس أو بشعر آدمي، سواء في ذلك المتزوجة وغيرها، وسواء بإذن الزوج أو بغير إذنه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة. واللعنة على الشيء تدل على تحريمه، وعلة التحريم ما فيه من التدليس والتلبيس بتغيير خلق الله ولحرمة الانتفاع بشعر الآدمي لكرامته، والأصل أن يدفن شعره إذا انفصل. وعند الحنفية قول بالكراهة.
أما إذا كان الوصل بغير شعر الآدمي وهو طاهر: فذهب الشافعية على الصحيح إلى حرمة الوصل إن لم تكن ذات زوج، وفي قول يكره.
أما إن كانت ذات زوج فلهم ثلاثة أوجه: أصحها: إن وصلت بإذنه جاز وإلا حرم.
وذهب الحنفية وهو المنقول عن أبي يوسف إلى أنه يرخص للمرأة في غير شعر الآدمي تتخذه لتزيد قرونها، واستدلوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ليست الواصلة بالتي تعنون، ولا بأس أن تعرى المرأة عن الشعر فتصل قرناً من قرونها بصوف أسود، وإنما الواصلة التي تكون بغياً في شبيبتها فإذا أسنت وصلتها بالقيادة، وذهب المالكية إلى عدم التفريق في التحريم بين الوصل بالشعر وبغيره، إلا أنهم قد نصوا على أن الوضع على الرأس ليس بوصل، والنهي إنما هو عن وصل شعر بشعر.
وذهب الحنابلة إلى تحريم وصل الشعر بشعر سواء كان شعر آدمي أو شعر غيره، وسواء كان بإذن الزوج أو من غير إذنه، قالوا: ولا بأس به من غير الشعر للحاجة، وفي رواية: لا تصل المرأة برأسها الشعر ولا القرامل ولا الصوف.
ومن ذلك نعلم حكم الباروكة فهي جائزة عند الحنفية، وجائزة عند الشافعية للمتزوجة بإذن الزوج، وجائزة عند الحنابلة للحاجة، وجائزة عند المالكية لأنها ليست بوصل بل توضع وضعاً.
ولعل الراجح أنه لا بأس في بيعها لذات زوج.
والله أعلم.
والظاهر لدينا أن وضع الباروكة على الرأس ليس من الوصل المنهي عنه شرعاً كما ذهب إليه المالكية، فقد جاء في شرح النفراوي على الرسالة عند قوله: وينهى النساء عن وصل الشعر.. ولو لم تصله بأن وضعته على رأسها من غير وصل لجاز.
وذكرنا أنها جائزة عند الحنفية وجائزة عند الشافعية للمتزوجة بإذن الزوج، وجائزة عند الحنابلة للحاجة، وجائزة عند المالكية لأنها ليست بوصل بل توضع على الرأس... وعلى ذلك فإن الراجح فيها عندنا أنها لا حرج فيها سواء كان ذلك للحاجة أو التزين للزوج إذا كانت من شعر طاهر غير شعر الآدمي، ولم تتبرج بها من تلبسها


الأربعاء، 23 أغسطس 2017

الفكر الإسلامي بين الإنعتاق والإنغلاق

بقلم الشيخ جمال الدين شبيب: 
ينقسم الناس بشأن تجديد الفكر الإسلامي إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول:أهل الغلو في الإنغلاق:
هم خصوم التجديد، الذين يجمدون على الموروث، ويريدون أن يبقى كل قديم على قدمه.حكمتهم المأثورة: "ما ترك الأول للآخر شيئاً .وشعارهم المرفوع: "ليس بالإمكان أبدع مما كان" .وهكذا فإن منهج هؤلاء يقوم على التقليد والمحافظة، والذي من أهم خصائصه الأمور التالية:
1- الاستغراق الكامل في النصوص، والوقوف بصفة خاصة عند الأحكام الفرعية التي تستخلص من هذه النصوص، والوقوف- فوق ذلك - عند ظواهر تلك النصوص. واعتبار ذلك من علامات الإتباع المحمود، الذي يقابل "الابتداع" المذموم، والتوقف عن البحث الطويل في حكمة التكليف ومقاصد التشريع وأولويات المطالب الدينية للأفراد وللأمة، وعن النظر في إمكان تغير تلك الأولويات باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
2- إساءة الظن بكل مذهب أو رأى أو اجتهاد يدعو إلى استخدام العقل والتعويل عليه في استنباط الأحكام الفقهية وتقرير الأمور الدينية.
واعتبار هذا الاستخدام تهديداً لقدسية الشريعة، ومدخلا لتحكيم الهوى، وتمرداً على حكم الله الذي تقرره الآية القرآنية الكريمة: ﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾  (الأحزاب: 36).
 ويلخص أتباع هذا المنهج موقفهم من هذه القضية بقولهم: إن الشريعة حاكمة لا محكومة. وأن على المؤمنين بها أن يطبقوا أحكامها الكلية والجزئية ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ (النساء: 65).
3- المبالغة في تقديس آراء علماء القرون الأولى من تاريخ الإسلام ومتابعة تلك الأقوال والآراء امتثالاً لما ورد به حديث النبي- صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ولما اشتهر عنهم من الجمع بين العلم والعمل به، وبين المعرفة والتقوى.
على نحو كانوا معه أئمة في العلم وقدوة للأمة في السلوك والعمل. وليس هذا- فيما يرى أتباع تلك المدرسة حال المحدثين من العلماء والمشتغلين بالفقه، بل إن هؤلاء المحدثين - في نظر أتباع هذه المدرسة - مظنة الافتتان بحضارات الآخرين، والاستعداد العقلي والنفسي لتقبل آراء أولئك الآخرين. وتعريض خصوصية الإسلام، وثوابت عقيدته وشريعته لأخطار عظيمة.
4- المبالغة في رفض كل فكرة وافدة، والحذر الشديد من الأخذ بشيء مما عليه أتباع الحضارات الأخرى والانحصار بذلك في الإسلام التاريخي والإسلام الجغرافي. اعتقاداً بأن غير المسلمين متآمرون أبداً على الإسلام والمسلمين. وأن الإسلام متميز ومتفرد بخصائص ذاتية تنفى عنه مشابهة أي حضارة أخرى  وأي نظام آخر عرفه الناس قديما أو يعرفونه حديثاً. وأن أي لقاء بين الإسلام وحضارته وبين عقيدة أو حضارة أخرى لا يمكن إلا أن يكون لقاء عابراً تعقبه مفارقة كاملة ويحكمه اختلاف أساسي. لأن التصور الإسلامي كله تصور متميز تماماً.
ونحن لا نخفي استدراكنا على كل المقولات المكونة لهذا المنهج. واعتقادنا بأنها تؤدى إلى انكماش الحضارة الإسلامية، وتراجع شأن المسلمين. كما أنها تلزم المؤمنين بما لم يلزمهم به الله. وتملأ حياتهم عسراً وحرجاً وحيرة. وهى أمور تنافى ثوابت كبرى من ثوابت المنهج الإسلامي السليم الذي تشهد له نصوص قطعية في كتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
كذلك لا نخفي أننا نعتبر اقتحام مصاعب التجديد بعد عصور طويلة من الجمود والانغلاق. سبيلاً وحيداً لنهضة الأمة وانبعاثها وتجدد دورها في زيادة المسيرة الإنسانية توجهاً إلى قيم الحق والعدل والرحمة والسلام.  [من مقال أ. د./ أحمد كمال أبو المجد، تجديد الفكر الإسلامي  في إطار جديد].
الصنف الثاني : أهل الغلو في الانعتاق:
الصنف الثاني:وهم على نقيض الصنف الأول، فإذا كان الصنف الأول غالوا في تقديس كل ما هو قديم، فهؤلاء غالوا في التجديد إلى درجة أنهم يريدون أن ينسفوا كل قديم، وإن كان هو أساس هوية المجتمع ومبرر وجوده، وسر بقائه.
ذلك هو تيار التغريب والحداثة الغربية، الذي نظر أهله، إلى الغرب فقط، فقلدوه وجمدوا على مقولات ثقافته وفلسفاته. كما نظر أهل الجمود التراثي، فقط إلى الماضي، فقلدوا مقولات سلف عصر تراجعنا الحضاري، وجمدوا عند ظواهر نصوصها.
 فتجديد هؤلاء هو الدعوة لاقتباس ما عند الغرب  بخيره وشره وحلوه ومره، وهؤلاء هم الذين سخر منهم مصطفى صادق الرافعي رحمه الله حين دخل معركته معهم "تحت راية القرآن" وقال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر. وردَّ عليهم شاعر الإسلام محمد إقبال بأن "الكعبة لا تُجدد بجلب حجارة لها من أوربا".  وأشار إليهم أحمد شوقي في قصيدته عن الأزهر:
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا      من مات من آبائهم أو عمّراً
مـن كل ســـــاع في الـقديـــم وهـد       مـه وإذا تـقدم للبنـاية قصـراً
 وهذا الصنف والذي قبله هما اللذان شكا منهما الأمير شكيب أرسلان حين قال: " إنما ضاع الدين بين جامد وجاحد، ذلك ينفر الناس منه بجموده، وهذا يضلهم عنه بجحوده. [القرضاوي، حول قضايا الإسلام والعصر ص 84].
الصنف الثالث :أهل الأصالة والمعاصرة:
وبين هذين الصنفين يبرز صنف وسط، يرفض جمود الأولين وجحود الآخرين، ويلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، ويقبل التجديد، بل يدعو إليه وينادي به، على أن يكون تجديداً في ظل الأصالة الإسلامية هذا التيار، هو تيار الإحياء لأصول الإسلام وثوابته، بالعودة إلى المنابع الجوهرية والنقية لهذا الدين الحنيف، والنظر فيها بعقل معاصر، يفقه أحكامها، كما يفقه الواقع الذي يعيش فيه.
ففي هذا التيار- الإحيائي والتجديدي - تتوازن " الثوابت "- الدائمة الثبات. والضامنة دوام إسلامية النسق الفكري على امتداد الزمان والمكان - مع "التجديد" في الفروع التي تطرحها متغيرات الواقع ومستجداته. الأمر الذي ينفى القطيعة "قطيعة للجديد والتجديد" مع "الثوابت والثبات ". كما ينفى "الجمود والتقليد"، وهكذا فإن أصحاب هذا التيار يرون أن التجديد ضرورة دينية لحفظ الدين، لأن الحياة ليست جامدة، وبالمثل يجب أن نفهم أن الدين الذي ينبغي أن يحكمها ليس جامداً، وبدون التجديد يقع خلط الصواب بالخطأ والحق بالباطل والعلم بالخرافة.
وإذا وقع مثل هذا الخلط فلا غرابة أن يصبح الدين أفيوناً. ولا نقصد بالخلط عدم تمييز الصواب والحق والعلم من الخطأ والباطل والخرافة، وإنما يقع في أوهام الناس نتيجة الإرث الطويل فيصبح التدين مجرد تقليد السابقين ويصدق فيهم قول الله تعالى على لسان الكافرين تقليداً ﴿ قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ﴾. نقصد بالخلط المفسد اعتبار ما يقع من اجتهادات العلماء الفضلاء ديناً لا يقبل الرد، لأن كل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه، ولو كان صحابياً جليلاً.
انظر آراء الصحابة الكرام، خالفهم فيها صحابة آخرون وهذا كثير. ثم انظر ما قاله ابن تيمية رحمه الله: "فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين ومن بعدهم إلا خفي عليه وجه السنة في الأدلة الشرعية، أو غابت عنه الأدلة أصلاً في بعض المسائل" [عبد الحليم أبو شقة، نقد العقل المسلم ص 175].
الدكتور الترابي أنموذجاً
ومن أروع من يمثل هذا المنهج الوسطي المقاصدي في الفكر الإسلامي المعاصر بين الانعتاق والانغلاق الدكتور حسن الترابي في كتابه الرائع ( قضايا التجديد "نحو منهج أصولي" ج1.
وقبل أن نتحدث عن كتاب الترابي «قضايا التجديد: نحو منهج أصولي» لابدّ من الإشارة إلى المقدمة الرائعة التي خطّها الأستاذان: محمد الحامدي ومحمد الميساوي، والتي أشادا فيها بالدور الريادي للدكتور حسن الترابي في ميدان التجديد، والذي تجاوز فيه "مجرد الدعوة إلى النظر في تراثنا الأصولي، كما تجاوز التناول الجزئي لبعض مفاهيم علم الأصول وقضاياه، متوفراً على صياغة نظرية متكاملة للتديّن" .
وذلك لأننا نعيش في ظروف معقّدة لم تعد مجرد إعادة الثقة بالدين والإقناع بجدواه في الحياة أمراً كافياً، فذلك هو أقل المطلوب، أما الآن فالمطلوب من حركة الفكر الإسلامي كما يذكر الحامدي والميساوي: "أنْ ترتاد بالمسلمين أفقاً أرْحَب ومستوى أعمق على صعيد بلورة المشروع الإسلامي وفق رؤية أصولية شاملة" .
ويشير الأستاذان إلى أن دعوة التجديد التي حمل الترابي لواءها في السبعينات توشك الآن أن تتحول إلى تيار دافق يتوزع رموزه بين أقطار عربية مختلفة.
والكتاب الذي بين أيدينا عبارة عن مجموعة من الرسائل والمحاضرات كتبها المؤلف أو ألقاها في مناسبات مختلفة – وقد جاء هذا الكتاب في خمسة فصول تتناول جميعها موضوع التجديد وقضاياه من زوايا مختلفة، ولكنها تصبّ في نفس الاتجاه وتعزز نفس الفكرة، وهذه الفصول هي: (الدين والتجديد - مشكلات التجديد - تجديد الفكر الإسلامي - تجديد أصول الفقه - منهجية التشريع الإسلامي - قضايا التجديد: نحو منهج أصولي)
يؤسس الترابي دعوته إلى التجديد على الواقع الراهن، ذلك أنَّ حاجتنا إلى التجديد إنما تنبع من واقع ضعفنا وهيمنة الحضارة الغربية، مع أننا نحن أصحاب الماضي المجيد والتراث العريق.
وهذه الحاجة إلى التجديد ليست ترفاً فكرياً أو بدعة ممقوتة، وإنما هي نابعة من أصل هذا الدين. فالدين كما يُعرّفه الترابي "توحيد بين شأن الإنسان في الدنيا وشأنه في الآخرة، بين الثابت المطلق والنسبي المتحول" .
وما دام الدين - من حيث هو خطابٌ للإنسان ثم كسبٌ منه- واقعاً في الإطار الظرفي، فلا بدَّ أنْ يعتريه شيءٌ من أحوال الحركة الكونية، ولكنه من حيث هو صلة بالله متعلق بالأزل المطلق الثابت، إنما يقوم على أصول وسنن ثابتة لا تتبدل. فهو بهذا وذاك "قائمٌ على ردِّ الشأن الظرفي المتحوِّل إلى محور الحق الثابت، وردِّ الفعل الزماني إلى المقصد اللانهائي" . ومعنى ذلك أنه يلزم منه حركة تصحح وجهته لئلا ينحرف عن سنة الله الواجبة.
وهكذا يرى الترابي أنَّ الدين يدور بين الثابت المطلق والنسبي المتحوِّل. ويُعزز لنا ذلك بأمثلة واضحة لا يُجادَل فيها:
فمن الثابت مثلاً ما في الوحي من أخبار الغيب، فهذه ثابتة في كل الرسالات وفي كل الأزمان وإن اختلفت صورة التعبير عنها. ولكن في المقابل هناك المتغير، كالشرائع الفرعية المتصلة بأحوال الوجود الزمني المتحرك، وهنا تغدوا الحركة جائزة في شرع الله، ليوافق ظروف قدر الله، ويبقى معبراً عن حق الله.
وعلى ذلك يرى الترابي التجديد شرطاً لأصالة التديّن واستمراره، وهو بذلك شرطٌ للتوحيد في الدين، فإذا لم تتجدد العبادة حالاً من الزمن بعد حال، انقطع اتصالها بثغرة زمنية، وإذا لم تتحقق في التاريخ جيلاً بعد جيل، انحجب عنها جيل. لأن التجديد "ينطوي على إثبات البعد الروحي للإنسان –أخص خصائص البشر- ذلك أنه يُثبت قدرة الإنسان على تجاوز ظروف التاريخ الذي يتّجه بعاقبه وكثافته إلى أنْ يحجب الإنسانَ عن أصول الوحي والشرع الأول" .
ويُقرّر الترابي حاجتنا إلى التجديد انطلاقاً من حيوية أحكام الشريعة وعدم جمودها، التي تتيح لنا الفهم والاستيعاب ووضوح الرؤية ضمن معطيات الزمن الذي نعيش فيه. فالشريعة تنـزَّلت أحكاماً حيَّة على واقع متحرِّك، موصولة بالمقاصد المتبغاة منه.
..وهذه الأحكام قد تكون مرتبطةً بأمور ثابتة لا تتحول، ولكنها في المقابل قد تُناط بقاعدة ظرفية متغيرة فتتغير معها الأحكام، لأنها وردت أصلاً بصورة متسعة تُتيح تَمثُّلها في الواقع بصور شتى حسب ما تتطلبه الظروف الخاصة، "بل قد تجيء الأحكام أحياناً ناصبة للمؤمنين مقصداً واجباً تاركةً لهم وسائل تحقيقه عفواً حسبما يتهيّأ لهم في كل زمان، وتجيء المعاني هادية إلى موقف إيمان كلّي تاركة لهم تفصيلاته وتأويلاته ووجه التجادل فيه أو التفاعل به حسبما يقتضي الابتلاء الظرفي المعين" .
ويؤصِّل الترابي لذلك بالإحالة على النموذج الشرعي الأول بتوجهاته وسننه العملية، فإنه - من وجهة نظره- يُشكِّل بناءً عضوياً حياً يُمَكِّن المستقرئ والمعتبر من إدراك فقه الاعتقاد والعمل في الشريعة، ومن ترتيب علاقاتها وأولوياتها المتكاملة، ومن تركيب ما يتلازم فيها من مظاهر الأوضاع والأفعال وباطن النيات وما يتقابل مع صالح الواعظ الديني وفاسد الواقع الاجتماعي، ومن التمييز بينما هو وسائل وذرائع وما هو مقاصد وعلل، أو بين ما هو هوامش وثانويات وما هو أركان وأصول .
وحريٌّ بنا أن نشير إلى حضور مفهوم التوحيد لدى الدكتور حسن الترابي في كل القضايا التي يعالجها، حتى إنه لا يتناول شأناً من شؤون الفكر والحياة إلا وهذا المفهوم حاضر لديه بكل قوة ووضوح.
ويركز الترابي في طرحه لقضية التجديد الديني على أن الدين حركة توحيد بين التعلق الإيماني بالأزل، والتعلق العملي بالظروف، بين الإنسانية والبشرية، بين الروح والمادة. فالتوحيد عند الترابي هو "مفتاح الحياة الدينية، وهو من ثم مفتاح العلم الديني، فلا بد من تجلي المبدأ التوحيدي في وحدة منهج العلوم قاطبة، ثم في وحدة عناصر المنهجية المختصة بكل علم، وكما كان الشرك نقيض التوحيد فإن سمات المنهج العلمي الإشراكي تتميز عن المنهج الإسلامي التوحيدي بتجزئتها للحق والحقيقة، وغُلوِّها في اعتبار أو اعتبار مقابل، وتناقضها وانقطاع نسقها النظري والتاريخي" .
ولعلَّ الترابي كان صاحب فكر ثاقب حين تناول التجديد بصورته العامة، وتجاوز مرحلة الحديث عن جزئيات الأحكام وفرادى النصوص، إلى مرحلة تأصيلٍ جديد على صعيد نسق الدين ونظامه المتكامل.
السلفية المعاصرة: إنغلاق على القديم
ثم ينتقل الترابي للحديث عن السلفية والتجديد، ونجد أنه يقارن بين السلفية الأولى التي كان أصحابها رجال أصول أكثر مما كانوا رجال فروع، وبين من يَتسمَّون بالسلفية الآن، والذين يَرون الدين متمثلاً في تاريخ المتدينين، ويتعصبون لهذا التاريخ، ويقلدون السلف لا في مقاصدهم ومسالكهم، بل في حرفية أفعالهم وأقوالهم. ويصف هؤلاء بأنهم أهل ثقافة صاغها الانغلاق على القديم، ولا يعلمون كثيراً عن الواقع الحاضر الذي يُراد أن يقام فيه الدين.
وأنا مع الترابي في أنَّ ما يقوم به هؤلاء إنما هو بحسن نية، ولكنه للأسف تصرّف قد لا يخدم الدين بقدر ما يوجِد الكثير من العراقيل في طريقه. ذلك أن بعض الصور القديمة لو تم إقحامها في واقع مختلف، ربما تُحدث من النتائج ما يجافي مقاصد الشريعة ويناقض سائر أحكامها.
علينا إذاً أن نعي تصرّفات السابقين وفق مقاصدها والغرض التي حرصت على تحقيقه، أكثر مما ننظر في حرفيتها. لأنّ ذلك قد يكون سبباً في بُعدنا عن روح النص ومقصده. وعبارة الترابي في ذلك هي في غاية الجمال، إذ يقول: "ومهما كان تاريخ السلف الصالح امتداداً لأصول الشرع فإنه ينبغي ألا يُوقَّر بانفعالٍ يحجب تلك الأصول. ذلك أن التقاليد كلما تباعدت طبقات توارثها تواردت عليها المدخلات الظرفية التي تباعد ما بينها وبين المصادر الأولى" .
ولا يقولَّن قائلٌ بأنَّ الترابي يريد بذلك أن يهدم تراث الأمة ، وأنْ يلغي فهم السلف لأصول الدين، لأن هذا لا يُفهم من كلامه ولا يمكن أنْ يقصده مثله، وإنما يريد أن يفرِّق لنا بين أصول الشرع وتصرفات السابقين المترتبة على هذه الأصول، وأنْ يميِّز لنا بين أصول الدين (نصوص القرآن والسنة) وبين أصول التفقه في الدين ومناهج تنـزيله على الواقع.
فما الضير مثلاً لو غيرنا في بعض معايير علم أصول الفقه وبما يتفق مع مقاصد الشريعة ولا يتنافى مع نصوص القرآن والسنة. علماً بأن الشافعي نفسه وهو أول من كتب في الأصول لم يكن يعلم بذلك أنه يؤسس لعلم جديد. فهل نتعامل بعد ذلك مع أصول الفقه كما نتعامل مع نصوص القرآن والسنة ؟
 الإمام الشافعي رائد "الفكر المقاصدي"
وإن المتتبِّع لمباحث الفكر المقاصدي في التراث الإسلاميِّ، يجد أن مقاصد الشريعة ليستْ عِلمًا مستقلاً عن علم أصول الفقه؛ لأن ما استُخدم في مقاصد الشريعة في أغلبه يرجع أساسًا إلى علم أصول الفقه، لا مِن حيثُ المصطلحاتُ، ولا القواعد، ولا المناهج، وإن كان من تجديدٍ في المصطلحات فلا يصل إلى درجة انقلاب العلم إلى غيره، وإنما هو تجديد في صلب العلم وفي بنيته.
نعم، هناك إضافات أضافَهَا أعلامُ الفكر المقاصدي، ومفاهيم أيضًا اقتبسوها من علومٍ وفنون أخرى، ووظَّفوها في علم أصول الفقه من باب مقاصد الشريعة؛ لكن هذه الألفاظ لم تبلغ درجةَ الخروج عن علم أصول الفقه وحدِّه، وأقصى ما يمكن أن يقال: إنهم طوروا بابًا من أبواب علم أصول الفقه، وهو طور كبير وعظيم جدًّا.
والإمام الشافعي (ر) كان يرى أن عِلم النحو أو علم اللغة العربية، لم يكن كافيًا لفهم النصوص الشرعية ومقاصدها؛ بل هناك فرق كبير بين شكل الخطاب العربي، وبين مقاصده؛ فالنحو ما يضبط في العربية شكلَ الكلام؛ هل ترفع أو تنصب أو تجر؟
ومن المعروف أن النحو لا يهتم بالمعاني أصلاً، فلو قلتَ: "أكل الحجرُ ولدًا"، لصحَّتْ من الناحية النحْوية؛ ولكن من حيث المعنى لا تصحُّ، فالنحوُ اهتم بالشكل، والبلاغةُ اهتمَّتْ بالجمال اللغوي، من التشبيه، والإيجاز، والاستعارة، والطباق، والجناس، ونحوها، إذًا بقي جانبٌ آخر يتعلَّق بمقاصد الخطاب لم يُضبَطْ بعدُ.
ومقاصد خطاب الشارع لا تُدرَك إلا عند تكييف الخطاب في الواقع عند تطبيقه، وهو مراد الشارع - عندما يتعلق بالخطاب القرآني والحديثي - من الكلام، كيف ينزل هذا الأمر، ولا يستطيع أن يضبطها مَن كان ملمًّا بالنحو، ولا البلاغة، ولا أي علم من العلوم التي تُتلقَّى، سواء بالنقل، أو بضبط القواعد المستقرأة من العربية العامة، إلا من كانت له خبرة بمقاصد الخطاب العربي، وهو ما يسمَّى بقصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
وهذا القصد الشرعي يحتاج إلى أمور، منها: إتقان العربية في فصاحتها، وأصالتها، وبلاغتها، ومساقات استعمالها، ليس في نحوها فقط؛ بل كيف كانت تستعملها العرب؟ وفي أي ظروف؟ فيحتاج هذا الأمر إلى عربي أصيل فعلاً.
وكذلك كان يُطلب في ضبط المساقات نوعٌ من التمرُّس على كتاب الله - عز وجل - وعلى سنة نبيِّه - عليه الصلاة والسلام - من حيث الاستنباط، والتعامُل الفقهي مع النصوص، وهذا الأمر معلومٌ أن الإمام الشافعي قد تفرَّغ له، سواء من حيث تتلمُذُه على الإمام مالك، أو من حيث إبداعه - رحمه الله - حتى كان له مذهبه المشهور.
وقد نبّه الامام الشافعي إلى استعمال عُرْف الكلام، ومعهود الاستعمال، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدلُّ على أن الإمام الشافعي - رحمه الله - كان يستقرئ طُرُق العرب في تنزيل الكلام في الواقع، ليس فقط من حيث الفهم العام، وهو ليس المقصود بمبدأ الإفهام، ولكن يتعلق بإفهام الكيفيات.
.. فالمقصود من حديث النبي (ص) : ((صلوا كما رأيتموني أصلي))[ رواه البخاري، رقم 6008.]؛ أي: كما وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - للهيئة والكيفية التي تتعلَّق بالتحقيق الواقعي والتنزيل، وكذلك حديث: ((خُذوا عني مناسككم))[ أخرجه مسلم 2/943، وأحمد 3/318، واللفظ لأحمد.]؛ يعني: كما ترون، فهذا هو الإفهام الذي كان يتحدَّث عنه الإمام الشافعي، ويبين كيف يُفهم من النصِّ الهيئةُ، والتطبيق، والتنزيل؟ولا يَفهم ذلك إلا مَن أدرك عُرفَ الاستعمال ومقاصدَه، وهيئاتِ التنزيل وكيفياته لدى العرب.
 ومن يقرأ كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي؛ سيرى أن بداية علم أصول الفقه، كانت أساسًا تعالج مشكلة "فهم" أي استيعاب للمقاصد عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء من حيث الدلالة اللغوية الطبيعية، أو الدلالة (الدلالية) الأصولية التقعيدية؛ بل إن هذه إنما هي تطوُّر عن تلك، فيما يتعلق بفهم النص الشرعي خاصة، كما يتبين من نص الإمام الشافعي المذكور سلفًا، والمتعلِّق بكون خطاب الله إنما هو بلسان العرب على ما تعرف من معانيها، قال: "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها".
ومن هنا وجدنا كثيرًا من النصوص التي تؤرِّخ لهذا العلم، تؤكِّد هذا، معلِّلةً إياه بالتحوُّل الاجتماعي، الذي طرأ على العرب بإسلام العجم، مما أدَّى إلى نشأة جيل فشا فيه اللحنُ، وضاعتْ منه الفصاحةُ نطقًا واستيعابًا، فأثَّر ذلك على فهم النص وبالتالي المقصد الشرعي.
بناء على ذلك كله؛ فإن الإمام الشافعي كان أول من نبَّه على منهج الفكر المقاصدي، بل إنه أول من وضع ضوابط لفهم مقاصد الشريعة، والتي سماها الإمام الشاطبي "بالأدوات التي بها تفهم المقاصد"["الاعتصام"، للشاطبي، 2/293.].
ونحن اليوم أحوج ما نكون لاقتفاء آثار أولئك الائمة الإعلام من السلف والخلف في متابعة طريق التجديد وتجلية الفهم المقاصدي للنصوص الإسلامية ولا سيما في الأحكام العملية في عصرنا الحاضر انطلاقاً من الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة حتى تتمكن الأمة من الانعتاق من ربقة الجهل والتقليد الأعمى والانطلاق بثبات إلى ميدان الانعتاق والتجديد.

هكذا حج رسول الله (ص)

إعداد الشيخ جمال شبيب: 
لما عزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الحجِّ أعلم الناس، فتجهزوا للخروج معه، ووافاه في الطريق خلائقُ لا يُحصَون، فكانُوا مِن بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مدَّ البصر، وخرجَ من المدينة يوم السبت نهاراً بعد الظهر لِسِتٍّ بَقِينَ مِن ذي القِعْدةِ بعد أن صلَّى الظهرَ بها أربعاً، وخطبهم قبل ذلك خُطبةً علَّمهم فيها الإحرام وواجباتِه وسننه.
وقد حج ّرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة حَجَّة واحدة، وهى حَجة الوَداع، وكانت سنةَ عشر.
ترجَّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحُليفة، فصلَّى بها العصر ركعتين، ثم بات بها وصلَّى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، فصلَّى بها خمس صلوات، وكان نساؤه كُلُّهن معه، وطاف عليهن تِلك الليلة.وقلَّد بُدنه نعلين، وأشعرَها 1 في جانبها الأيمن، فشقَّ صفحةَ سَنامِها، وسَلَتَ الدَّمَ عنها.
فلما أراد الإحرام اغتسل. وذكر الدارقطنى، عن عائشة قالت: “كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُحرِمَ، غسل رأسه بخطمي وأُشْنَان . ثم طيَّبته عائشة بيدها بِذَرِيرَةٍ وطيبٍ فيه مسك في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص المِسك يُرى في مفارقه ولِحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلَّى الظهر ركعتين، ثم أهَلَّ بالحجِّ والعُمرة في مصلاه” 2.
ولبَّد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه بالغِسْل وهو بالغين المعجمة على وزن كِفلٍ وهو ما يُغسل به الرأس مِن خَطْمِيٍّ ونحوه يُلبَّدُ به الشعر حتى لا ينتشِر، وأهلَّ في مُصلاه بعدَ صلاةِ الظُّهر، ثم لبَّى فقال: “لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيك لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ”. ورفع صوتَه بهذه التلبيةِ حتى سَمِعَها أصحابُه، وأمرَهم بأمر اللَّه له أن يرفعُوا أصواتَهم بالتلبية، وأهلَّ أيضاً بعدما ركب ناقته، ثم أهلَّ لما استقلَّت به على البيداء.
ثم إنَّه صلى اللَّه عليه وسلم خيَّرهم عند الإحرام بين الأنساكِ الثلاثة: (القران، التمتع، الإفراد)
وكان حَجه على رَحْل وزَامِلتُه تحته.
مسيره صلى الله عليه وسلم إلى مكة
ثم سار رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُلبِّى بتلبيتِه المذكورةِ، والناسُ معه يزيدُون فيها ويَنقُصُون، وهو يُقِرُّهم ولا يُنكِرُ عليهم.ولزم تلبيتَه، فلما كانُوا بالرَّوحاء، رأى حِمار وحْشٍ عَقيرا، فقال: “دَعوه فإنَّه يُوشِكُ أَنْ يَأتىَ صَاحِبُه”، فَجاء صَاحِبُه إلىَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولم يكن محرما، فَقَالَ: يا رسُولَ اللَّه، شَأْنَكُم بِهَذَا الحِمارِ، فَأَمرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ.
ثم مضى حتى إذا كان بالأُثَايةِ بين الرُّويثَةِ والعَرْجِ، إذا ظبيٌ حَاقِفٌ في ظِلٍّ فيه سهم لم يعرف صاحبه، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يَرِيبُه أحدٌ من الناس، حتى يُجاوِزوا.
ثم سار حتى إذا نزل بالعَرْجِ، وكانت زِمالتُه وزِمَالَةُ أبى بكر واحدة، وكانت مع غلام لأبى بكر، فجلس رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه، وعائشةُ إلى جانبه الآخر، وأسماءُ زوجته إلى جانبه، وأبو بكر ينتظِر الغلام والزمالة، إذ طلع الغلام ليس معه البعير، فقال: أين بعيرُك؟ فقال: أضللتُه البارحة، فقال أبو بكر: بعير واحد تُضِلُّه. قال: فَطفِق يضربُه ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبسَّم، ويقول: انظُروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنَعُ، وما يزيد رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم.
ثم مضى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالأبواءِ، أهدى له الصَّعبُ بن جَثَّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ وحشىٍّ، فردَّه عليه، فقال: “إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ”.
فلما مرَّ بوادى عُسْفَان قال: “”يا أبا بكر؛ أيُّ وادٍ هذا”؟ قال: وادى عُسْفان. قال: “لقد مَرَّ به هُودٌ وصَالِحٌ على بَكْرَيْنِ أَحْمَرَيْن خُطُمُهُما اللِّيفُ وَأُزُرُهُم العبَاءُ، وأرْدِيتُهُم النِّمارُ، يُلَبُّونَ يَحَجُّونَ البَيْتَ العَتِيقَ”” 3.
فلما كان بَسَرِفَ، حاضت عائشةُ رضي اللَّه عنها، وقد كانت أهلَّت بعُمْرة، فدخل عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهى تبكى، قال: “”ما يُبْكِيكِ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ”؟ قالت: نَعَمْ، قال: “هَذَا شيٌ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفي بالبَيْتِ””.
ثمَّ نهض صلى اللَّه عليه وسلم إلى أن نزل بذي طُوى، فبات بها ليلةَ الأحد لأربع خَلَوْنَ من ذي الحِجة، وصلَّى بها الصُّبح، ثم اغتسلَ مِنْ يومه، ونهض إلِى مكة، فدخلها نهاراً مِن أعلاها مِن الثنيَّة العُليا التي تُشْرِفُ على الحَجُونِ، ثم سار حتى دخلَ المسجد وذلك ضحىً.
طواف القدوم
وذكر الطبرانى: أنه كان إذا نظر إلى البيت يرفعُ يديه، ويُكبِّر ويقُول: “اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومِنْكَ السَّلامُ حَيِّنا رَبَّنا بالسَّلام، اللَّهُمَّ زِدْ هَذا البَيْتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً، وزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَكْريماً وتَشْريفاً وتَعْظيماً وبِرَّاً”.
فلما دخل المسجد، عَمَدَ إلى البيت ولم يركع تحيةَ المسجد، فلما حاذى الحجَر الأسود، استقبلَه واستلمه ولم يُزاحِمْ عليه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيتَ عن يساره، وطاف سبعة أشواط رمَل في الثلاثة الأول، وكان يُسرع في مشيه، ويُقارِبُ بين خُطاه، واضطبع بردائه فجعل طرفيه على كتفه الأيسر، وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود، أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبّل المحجن، والمحجنُ عصا محنيَّة الرأس، وثبت عنه أنه قبله وسجد عليه، وقال: “الله أكبر”، وأنه أيضا استلم الركن اليماني، وكان يقول: “بسْم اللَّه واللَّه أكْبَر”.
وحُفِظَ عنه بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار وروى أبو داود أيضاً: مِن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: “طُفْتُ مَعَ عَبدِ اللَّه، فَلَّما حَاذَى دُبُرَ الكَعْبَةِ قُلْتُ: أَلاَ تَتَعَوّذُ؟ قال: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النار، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الحَجَرَ، فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالبَابِ -(الملتزم)-، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِراعَيْهِ هَكَذا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطاً، وقَالَ: هَكَذَا رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.”
صلاته صلى الله عليه وسلم خلف مقام إبراهيم
فلما فرغ مِن طوافه، جاء إلى خلفِ المقام، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلى، فصلَّى ركعتين، والمَقَامُ بينه وبينَ البيت، قرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص. فلما فرغ من صَلاته، أقبل إلى الحجر الأسودِ، فاستلمه.
سعيه صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة
ثم خرج إلى الصَّفا مِن الباب الذي يقابله، فلما قَرُب منه. قرأ: إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه“أبدأ بما بدأ اللَّه به”. ثم رَقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبلَ القِبلة، فوحَّدَ اللَّه وكبَّره، وقال. “لا إله إلا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئٍ قدير، لا إله إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه”. ثم دعا بين ذلك، وقال مِثلَ هذا ثلاثَ مرات.
ثم نزل إلى المروة يمشى، فلما انصبَّت قدماه في بطن الوادي، سعى حتَّى إذا جاوز الوادي وأَصْعَد، مشى.
وكان صلى اللَّه عليه وسلم إذا وصل إلى المروة، رَقِىَ عليها، واستقبل البيتَ، وكبَّر اللَّهَ ووحَّده، وفعل كما فعل على الصَّفا، وفعل ذلك سبع مرات وقف في كل من الصفا والمروة أربع مرات، فلما انتهى إلى المروة، أمرَ كُلَّ مَن لا هَدْى معه أن يَحِلَّ حتماً ولا بُدَّ، قارناً كان أو مفرداً، وأمرهم أن يَحِلُّوا الحِلَّ كُلَّهُ مِن وَطْءِ النِّساء، والطِّيب، ولُبس المخيط، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التَّرْوِيَةِ، ولم يَحِلَّ هو مِن أجلِ هَدْيه. وهناك قال: “لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْري ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْيَ، وَلَجعَلْتُها عُمْرَةً”.
وهُناك دعا للمحلِّقين بالمغفرة ثلاثاً، وللمقصِّرين مرة. وهناك سأله سراقةُ بن مالك بن جُعْشُم عقيبَ أمره لهم بالفسخ والإحلال: هل ذلك لِعامِهم خاصة، أم للأبد؟ فقال: “بَلْ لِلأبد”.
يوم التروية
وكان يُصلِّى مدة مُقَامه بمكة إلى يوم التروية ( الثامن من ذي الحجة) بمنزله الذي هو نازِل فيه بالمسلمين بظَاهِر مكَّة، فأقام بظاهر مكة أربعةَ أيَّام يَقْصُرُ الصَّلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، فلما كان يومُ الخميس ضُحىً، توجَّه بمن معه مِن المسلمين إلى مِنَى، فأحرم بالحجِّ مَنْ كان أحلَّ منهم مِن رحالهم، فلما وصل إلى مِنَى، نزل بها، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ، وبات بها، وكان ليلةَ الجمعة.
يوم عرفة
فلما طلعتِ الشمسُ، سار منها إلى عرفة في التاسع من ذي الحجة ، وأخذ على طريق ضبٍّ، وكان مِن أصحابه الملبِّي، ومنهم المُكبِّرُ، وهو يسمَعُ ذلك ولا يُنْكِرُ على هؤلاء ولا على هؤلاء، فوجد القُبَّة قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَة بأمره، وهي قرية شرقى عرفات، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمسُ، أمر بناقته القَصواء فَرُحِلتْ، ثم سار حتى أتى بَطن الوادي من أرض عُرَنَةَ.
فخطب النَّاسَ وهو على راحِلته خُطبة عظيمة قرَّرَ فيها قواعِد الإسلام، وهَدَمَ فيها قواعِدَ الشِّرْكِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التي اتفقت المِللُ على تحريمها، وهى الدِّماءُ، والأموالُ، والأعراض، ووضع فيها أُمورَ الجاهلية تحتَ قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كُلَّه وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيراً، وأوصى الأُمَّة فيها بالاعتصام بكتاب اللَّه، وأخبر أنهم لن يَضِلِّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم: بماذا يقولُون، وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بَلَّغَت وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فرفع أُصبعه إلى السماء، واستشهد اللَّهَ عليهم ثلاثَ مرات، وأمرهم أن يُبَلِّغ شاهدُهم غائبَهم.
وموضعُ خُطبته لم يكن من الموقف، فإنه خطب بِعُرَنَة، وليست من الموقف، وهو صلى الله عليه وسلم نزَل بِنَمِرَةَ، وخطب بِعُرَنَة، ووقف بِعَرفَة، وخطب خُطبة واحدة، ولم تكن خطبتين، جلس بينهما، فلما أتمها، أمَرَ بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة، فصلَّى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يومَ الجمعة، ثم أقام فصلَّى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة، وصلُّوْا بصَلاتِه قصراً وجمعاً، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع.
فلما فرغ من صلاته، ركب حتى أتى الموقفَ، فوقف في ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ، واستقبل القِبْلة، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه، وكان على بعيره، فأخذَ في الدُّعاء والتضرُّع والابتهال إلى غروب الشمس، وأمر النَّاس أن يرفعُوا عن بطن عُرَنَةَ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك، بل قال: “وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِفٌ”.
وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها مِن إرث أبيهم إبراهيم وهنالك أقبل ناسٌ من أهل نَجْدٍ، فسألوه عن الحجِّ، فقال: “الحَجُّ عَرَفَةُ، مَن جَاء قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أيَّامُ مِنَى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فى يَوْمَيْن، فلا إثْمَ عَلَيْهِ، ومَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عليه”.
وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أنَّ خَيْرَ الدُّعَاء دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وذكر من دعائه صلى الله عليه وسلم في الموقف: “اللَّهُمَ لَكَ الحَمْدُ كالَّذِي نَقُولُ، وخَيْراً مِمَّا نقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتي وَنُسُكي، ومَحْيَايَ، ومَمَاتِي، وَإليكَ مَآبي، ولَكَ ربِّى تُراثي، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتاتِ الأمْرِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِيء به الرِّيحُ” 4.
ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك أيضا: “اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كَلامي، وتَرَى مَكَاني، وتَعْلَمُ سرِّى وعَلانيتي، لا يخفى علَيْكَ شَيٌ مِنْ أَمْري، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبي، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تَجْعلني بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بي رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ” 5.
وذكر الإمام أحمد: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: كان أكثرُ دُعاءِ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفة: “لا إله إلاَّ اللَّهُ وحدَهْ لا شرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحمدُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شئ قَدِير”.
وذكر البيهقيُّ من حديث علىّ رضي اللَّهُ عنه، أنه صلَّى اللَّه عليه وسلم قال: “أَكْثَرُ دُعائي ودُعاءِ الأَنْبيَاء مِنْ قَبْلي بِعَرَفَةَ: لا إله إلاَّ اللَّه وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِير، اللَّهُمَّ اجْعَل في قَلبي نُوراً، وفى صَدْري نُوراً، وفى سَمْعي نُوراً، وفى بَصَري نُوراً، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لي صَدْرِي، ويَسِّرْ لي أَمْري، وأعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْواسِ الصَّدْرِ، وشَتَات الأمْر، وفِتْنةِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما يَلِجُ في اللَّيْل، وشَرِّ ما يَلِجُ في النَّهارِ، وشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّياحُ، وشَرِّ بَوائِق الدَّهْر”.
وهناك أُنزِلَتْ عليه: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً.
وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرِم فمات، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُكفَّنَ في ثَوْبَيْهِ، ولا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وأن يُغَسَّل بمَاءٍ وَسِدْرٍ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا وَجْهُهُ، وأَخْبَرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلَبِّى.
مسيره صلى الله عليه وسلم إلى مزدلفة
فلما غربت الشمسُ، واستحكم غروبُها بحيثُ ذهبت الصُّفرة، أفاض من عرفة، وأردف أُسامةَ بنَ زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمَّ إليه زِمام ناقتِه، حتى إن رأسَها ليُصِيبُ طَرَفَ رَحْلِهِ وهُو يقول: “أَيُّهَا النَّاسُ؛ عَلَيْكُم السَّكِينَةَ، فإنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإيضَاع”. أي: ليس بالإسراع. وأفاض من طريق المَأزِمَيْن.
ِثم جعل يسيرُ العَنَقَ، وهو ضربٌ من السَّير ليس بالسَّريعِ، ولا البَطيء. فإذا وجد فَجْوةً وهو المتَّسعُ، نَصَّ سيره، أي: رفعه فوق ذلك، وكلما أتى ربوةً من تلك الرُّبى، أرخى للناقة زِمامها قليلاً حتى تصعد.
وكان يُلبِّي في مسيره ذلك، لم يقطع التلبيةَ. فلما كان في أثناء الطريق، نزل صلواتُ اللَّهِ وسلامه عليه، فبال، وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة: الصلاة يا رَسول اللَّه، فقال: “الصلاة – أو المُصَلَّى – أَمَامَك”.
ثم سار حتى أتى المزدلفة، فتوضأ وضوء الصَّلاة، ثم أمر بالأذان، فأذَّن المؤذِّنُ، ثم أقام، فَصَلَّى المغربَ قبل حطِّ الرِّحَال، وتبريكِ الجمال، فلما حطُّوا رِحالهم، أمر فأقيمتِ الصَّلاةُ، ثم صلَّى عِشاء الآخِرة بإقامة بلا أذان، ولم يُصلِّ بينهما شيئاً. ثم نام حتى أصبح.
“وأَذِنَ في تلك الليلة لِضعفةِ أهلِه أن يتقدَّمُوا إلى مِنَى قَبْلَ طُلوعِ الفجر، وكانَ ذلك عِند غيبوبةِ القَمَرِ، وأمرهم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تطلُعَ الشَّمسُ” 6.
يوم النحر
فلما طلع الفجرُ، صلاَّها في أول الوقت بأذان وإقامة يومَ النحر، وهو يومُ العيد ( العاشر من ذي الحجة ) ، وهو يومُ الحجِّ الأكبر، وهو يومُ الأذان ببراءة اللَّه ورسولِه مِن كُلِّ مشرك.
ثم ركِبَ حتى أتى موقِفَه عند المَشْعَرِ الحَرَامِ، فاستقبل القِبْلة، وأخذ في الدُّعاء والتضرُّع، والتكبير، والتهليلِ، والذِّكرِ، حتى أسفر جدّاً، وذلك قبلَ طُلوع الشمس.
وهنالك سأله عُرْوَةُ بنُ مُضَرِّس الطَّائي، فقال: يا رسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طيِّءٍ، أكْلَلْتُ رَاحِلتي، وأتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ شَهِدَ صَلاتَنَا هذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وقَفَ بعَرَفَةَ قَبْلَ ذلِكَ ليلاً أوْ نَهاراً، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّه، وقَضى تَفَثَه” 7.
وقف صلى اللَّه عليه وسلم في موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كُلَّها موقف، ثم سار مِن مُزْدَلِفَةَ مُرْدِفاً للفضل بن العباس وهو يُلبِّى في مسيره، وانطلق أُسامةُ بن زيد على رجليه في سُبَّاقِ قُريش.
مسيره صلى الله عليه وسلم إلى منى
وفى طريقه ذلك أمر ابنَ عباس أن يَلْقُطَ له حَصى الجِمار، سبعَ حصياتٍ، فالتقط له سبع حصيات مِنْ حَصَى الخَذْفِ، فجعل يَنْفُضُهُنَّ في كَفِّهِ ويَقُولُ: “بأَمْثَال هؤلاء فارْموا، وإيَّاكُم والغُلُوَّ فى الدِّين، فإنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ في الدِّين”.
وفى طريقه تلك، عَرَضَتْ له امرأةٌ مِن خَثْعَمَ جَمِيلةٌ، فسألته عن الحجِّ عَنْ أبيها وَكانَ شَيْخاً كَبِيراً لا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فأَمَرَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، وجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَصَرَفَهُ إلَى الشِّقِّ الآخَرِ،
وسأله آخرُ هنالك عن أُمِّه، فقال: إنَّها عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فإن حَمَلْتُها لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وإنْ رَبَطْتُها خَشِيتُ أنْ أَقْتُلَها، فَقَالَ: “”أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلى أُمِّك دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ”؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: “فَحُجَّ عنْ أُمِّكَ”
فلما أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، حَرَّك ناقتَه وأسرع السَير، وهذه كانت عادتَه في المواضع التي نزل فيها بأسُ اللَّهِ بأعدائه، فإن هُنالِكَ أصابَ أصحابَ الفيل ما قصَّ اللَّه علينا، ولذلك سُمِّي ذلك الوادي واديَ مُحَسِّر، لأن الفيل حَسَرَ فيه، أي: أعيى، وانقطع عن الذهاب إلى مكة، وكذلك فعل في سُلوكه الحِجْرَ دِيارَ ثمود، فإنه تقنَّع بثوبه، وأسرع السَّيْرَ.
رميه صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة
وسلك صلى اللَّه عليه وسلم الطريقَ الوُسطى بين الطريقين، وهى التي تخرُج على الجمرة الكُبرى، حتى أتى مِنَى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفلِ الوادي، وجعل البَيْتَ عن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، واستقبلَ الجمرةَ وهو على راحلته، فرماها راكباً بعد طلوع الشمس، واحدة بعد واحدة، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حصاةٍ، وحينئذ قطع التلبية.
وكان في مسيره ذلك يُلَبِّى حتى شرع في الرمي، ورمى وبلالٌ وأُسامةُ معه، أحدهما آخِذٌ بِخِطام ناقته، والآخر يُظلِّلُه بثوب من الحر.
خطبته صلى الله عليه وسلم في منى يوم النحر
ثم رجع إلى مِنَى، فخطب الناسَ خُطبة بليغة أعلمهم فيها بحُرمة يومِ النحر وتحريمه، وفضله عند اللَّه، وحُرمة مكةَ على جميع البلاد، وأمرهم بالسَّمْعِ والطَّاعَةِ لِمَن قَادَهُم بِكِتَابِ اللَّهِ، وأَمَرَ النَّاسَ بِأخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنه، وقال: “لَعَلِّى لا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هذا”.
وعلَّمهُم مناسكهم، وأنزلَ المهاجرين والأنصار منازلَهم، وأمرَ الناسَ أن لا يَرْجعُوا بَعْدَهُ كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُهُم رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وأَخْبَرَ أَنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ.
وقال في خطبته: “لا يَجْني جَانٍ إلا على نَفْسِه”.
ولقد قال عبدُ اللَّهِ بن عمرو: “ما رأيتُه صلى اللَّه عليه وسلم سئِلَ يومئذٍ عن شيء إلا قال: ((افْعَلُوا وَلاَ حَرَجَ)).
وأنزل المهاجرين عن يمين القِبْلة، والأنصارَ عن يسارها، والناسُ حولهم، وفتح اللَّه له أسماعَ الناس حتى سمعها أهلُ مِنَى في منازلهم.
نحره صلى الله عليه وسلم الهدي
ثم انصرف إلى المَنْحَرِ بمِنَى، فنحر ثلاثاً وستين بَدَنَة بيده، وكان ينحرُها قائِمةً، معقولةً يدُها اليُسرى. ثم أمسك وأمر علياً أن يَنْحَرَ ما غبر من المائة، ثم أمر علياً رضي اللَّه عنه، أن يتصدقَ بِجلالِها ولُحومِها وجُلودِها في المساكين، وأمره أن لا يُعِطىَ الجَزَّار في جِزَارتِها، شيئاً منها، وقال: نَحْنُ تُعْطِيهِ مِن عِنْدِنَا، وقَالَ: “”مَنْ شاءَ اقْتَطَعَ”. وأعلمهم “أن مِنَى كُلَّها مَنْحَرٌ، وأَنَّ فِجاجَ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ””.
تحلله صلى الله عليه وسلم
في حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه.
فلما أكملَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نحره، استدعى بالحلاَّق، فحلق رأسه، فَقَالَ لِلحلاَّق – وهو مَعْمر بن عبد اللَّه وهو قائم على رأسه بالموسى ونَظَر في وَجْهِهِ – وقَالَ: “”يَا مَعْمَرُ؛ أَمْكَنَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَفى يَدِكَ المُوسَى” فَقَالَ معمر: أمَا واللَّه يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ ذلك لَمِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَىَّ ومَنِّهِ، قَالَ: “أَجَلْ إذاً أَقَرُّ لَكَ”” 8.
فقال للحلاق: “خُذْ، وأَشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فَلما فَرَغَ مِنْه، قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيه، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الحَلاَّق، فَحَلَقَ جَانِبهُ الأيْسَر، ثُّمَّ قالَ: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه” 9.ودعا للمحَلِّقِينَ بالمغْفِرَةِ ثَلاثاً، وَلِلمُقَصِّرِين مَرَّةً، وحلق كثيرٌ من الصحابة، بل أكثرُهم، وقصَّر بعضُهم.
ثم أفاض صلى اللَّه عليه وسلم إلى مكة قبل الظهر راكباً، فطاف طوافَ الإفَاضَةِ، وهو طوافُ الزِّيَارةِ، وهو طَوافُ الصَّدَر.
ثمَّ أتى زمزمَ بعد أن قضى طوافَه وهم يسقون، فقال: “لَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُم النَّاسُ، لنَزَلْتُ فَسَقَيْتُ مَعَكُمْ” ثُمَّ ناولُوه الدَّلْوَ، فَشَربَ وهُوَ قَائِم.
رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مِنَى ورميه الجمرات
ثم رجع صلى اللَّه عليه وسلم إلى مِنَى مِن يومه ذلك، فباتَ بها، فلما أصبَحَ، انتظرَ زوالَ الشَّمْسِ، فلما زالت، مشى مِن رحله إلى الجمَارِ، ولم يَرْكَبْ، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مَسْجِدَ الخَيْفِ، فرماها بسبع حَصَياتٍ واحدةً بعدَ واحدةٍ، يقول مع كُلِّ حصاة: “اللَّهُ أكْبَرُ”، ثم تقدَّم على الجمرة أمامها حتى أسهلَ، فقام مستقبلَ القِبْلة، ثم رفعَ يديهِ وَدَعَا دُعاءاً طَوِيلاً بقدر سُورَةِ البقرة، ثم أتى إلى الجَمرة الوُسطى، فرماها كذلك، ثم انحدرَ ذاتَ اليَسارِ مما يلي الوادي، فوقفَ مستقبِلَ القِبْلة رافعاً يديه يدعو قريباً مِن وقُوفِه الأولِ، ثم أتى الجمرَة الثَّالِثَة وهي جمرة العَقبة، فاستبطن الوادي، واستعرض الجَمرة، فجعل البَيْتَ عَن يسارِه، ومِنَى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك. فلما أكمل الرمي، رجع مِن فوره.
خطبه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج
وخطب صلى اللَّه عليه وسلم الناس بمِنَى خطبتين: خطبةً يوم النحر وقد تقدَّمت، والخطبَة الثانية: في أوسط أيَّامِ التشريق، فقد ذكر البيهقي، من حديث موسى بن عُبيدة الرّبَذِي، عن صدقة بن يسار، عن ابنِ عمر، قال: أُنْزِلَتْ هَذِه السُّورَةُ: إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ، على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في وسط أيَّامِ التشريقِ، وعُرِفَ أنه الوداعُ، فأمر براحلته القَصْواء، فَرُحِلَتْ، واجتمع الناسُ فقال: “يا أيها النَّاسُ”… ثم ذكر الحديث في خطبته.
وفي حديث سَرَّاء بنت نبهان، قالت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: “”أتدرون أيُّ يَوْمٍ هذَا”؟ -قَالَت: وهُو اليَوْمُِ الَّذي تَدْعُونَ يَوْمَ الرُّؤوس- قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: “هذَا أوْسَطُ أيَّامِ التَّشْريقِ، هَلْ تَدْرُونَ أيُّ بَلَد هذَا”؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: “هذَا المَشْعَرُ الحَرَامُ”، ثُمَّ قَال: “إنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عامي هذَا، ألاَ وَإنَّ دمَاءَكُم، وأَمْوالَكُم، وَأَعْرَاضَكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذَا، في شهركم هذا، في بَلَدِكُمْ هذَا، حَتَّى تَلْقُوْا رَبَّكم، فَيَسْأَلَكُم عَنْ أَعْمالِكُم، ألاَ فَلْيُبَلِّغْ أَدْنَاكُم أقصاكم، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ”؟” 10. ويوم الرؤوس: هو ثاني يوم النحر بالاتفاق.
واستأذنه العباسُ بنُ عبد المطلب أن يَبيت بمكة ليالي مِنَى مِن أجل سقايته، فأذن له.
واستأذنه رِعاءُ الإبِلِ في البيتوتة خارِجَ مِنَى عند الإبل، فأرخص لهم أن يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثم يَجْمَعُوا رمىَ يومين بَعْدَ يوم النحر يرمُونَه في أحدهما.
ثم إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى مكة
ولم يتعجل صلى اللَّه عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتَّى أكمل رمىَ أيامِ التشريق الثلاثَةَ، وأفاض يومَ الثلاثاء بعد الظهر إلى المُحَصَّبِ، وهو الأبطح، وهو خَيْف بنى كِنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قُبَةً هناك، دون أن يأمرَه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلَّى الظُّهر، والعصرَ، والمغربَ، والعِشاء، ورقد رقدة ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلاً سحراً، لم يَرْمُلْ في هذا الطَّوافِ.
وأخبرت صفية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها حائض، فقال: “”أحَابِسَتُنا هي”؟ فقالُوا له: إنها قَدْ أَفَاضَتْ قال: “فَلْتَنْفِرْ إذاً””. ورَغِبَتْ إليه عائشةُ تلك الليلة أن يُعْمِرَها عُمرةً مفردَة، فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأَ عن حجِّها وعُمرتها، فأبت إلا أن تعتمِرَ عُمرة مفردة، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يُعْمِرَها مِن التنعيم، فَفَرَغَتْ مِن عُمرتها لَيلاً ثمَّ وافَتِ المُحَصَّبَ مَعَ أخيها، فأتيا في جَوْفِ الليلِ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: “”فَرَغْتُمَا”؟ قالت: نَعَمْ، فنادَى بالرَّحِيل في أصحابه، فارتحلَ الناسُ، ثم طافَ بالبيت قبلَ صَلاةَ الصُّبح” 11.
رحيله صلى الله عليه وسلم إلى المدينه المنورة
ثم ارتحل صلى اللَّه عليه وسلم راجعاً إلى المدينَةِ، فلما كانَ بالرَّوحَاءِ، لقى ركباً، فسلَّم عليهم، وقال: “”مَنِ القَوْمُ”؟ فَقَالُوا: المُسْلِمُونَ، قالوا: فَمَنِ القَوْمُ؟ فَقَالَ: “رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم”، فَرَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبياّ لَهَا مِنْ مِحفَّتِها، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَلِهَذَا حَج؟ قال: “نَعَمْ، ولَكِ أَجر." فلما أتى ذَا الحُلَيْفَةِ، باتَ بِهَا، فَلَمَّا رَأى المَدِينَةَ، كَبَّرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وقال: “لا إله إلاَّ اللَّهُ وًحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شَيٍ قَدِير، آيبِوُن تَائِبونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ، لِرَبِّنا حَامدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه”. ثم دخلها نهاراً مِن طَرِيق المُعَرَّسِ، وخَرَج مِن طرِيق الشَّجَرَةِ.
هكذا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم..
---------------------
[1] أشعر البدنة أعلمها وهو أن يشق جلدها أو يطعنها في أسنمتها في أحد الجانبين بمبضع أو نحوه، وقيل يطعنها في سنامها الأيمن حتى يظهر الدم ويعرف أنها هدي. (لسان العرب، ج4 ص)414)
 [2] أُشْنَان: أعشاب كانت تستعمل للغسل.
[3] ذكره الإمام أحمد في المسند.
[4] ذكره الترمذي.
[5] ذكره الطبراني.
[6] حديث صحيح صححه الترمذي وغيره.
[7] قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[8] ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه اللَّه.
[9] هكذا وقع في صحيح مسلم.
[10] رواه أبو داود.
[11] هذا لفظ البخاري.

الحج ذكرى وعبرة

إعداد الشيخ جمال الدين شبيب: 
لكل عبادة في الإسلام حكم بالغة، يظهر بعضها بالنص عليها، أو بأدنى تدبر، وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين الموفقين في الاستجلاء والاستنباط.
والحكمة الجامعة في العبادات هي تزكية النفوس، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتصفيتها من الكدرات، وتحريرها من رق الشهوات، وإعدادها للكمال الإنساني، وتقريبها للملأ الأعلى، وتلطيف كثافتها الحيوانية؛ لتكون رقاً للإنسان، بدلاً من أن تسترقه.
وفي كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم، وعقله، وإرادته.
هذا وإن للحج أسراراً بديعة، وحكماً متنوعة، وبركات متعددة، ومنافع مشهودة، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة.
فمن أسرار الحج ومنافعه ما يلي:
كمال المخلوق في تحقيق العبودية لربه، وكلما ازداد العبد تحقيقاً لها؛ ازداد كماله، وعلت درجته.
وفي الحج يتجلى هذا المعنى غاية التجلي؛ ففي الحج تذلل لله، وخضوع وانكسار بين يديه؛ فالحاج يخرج من ملاذ الدنيا مهاجراً إلى ربه، تاركاً ماله وأهله ووطنه، متجرداً من ثيابه، لابساً إحرامه، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربه، تاركاً الطّيب والنساء، متنقلاً بين المشاعر بقلب خاضع، وعين دامعة، ولسان ذاكر يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه.
ثم إن شعار الحاج منذ إحرامه إلى حين رمي جمرة العقبة والحلق: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
ومعنى ذلك: أنني خاضع لك، منقاد لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانات؛ طاعة لك، واستسلاماً، دونما إكراه أو تردد.
وهذه التلبية ترهف شعور الحاج، وتوحي إليه بأنه – منذ فارق أهله – مقبل على ربه، متجرد عن عاداته ونعيمه، منسلخ من مفاخره ومزاياه.
ولهذا التواضع والتذلل أعظم المنزلة عند الله عز وجل إذ هو كمال العبد وجماله، وهو مقصود العبودية الأعظم، وبسببه تمحى عن العبد آثار الذنوب وظلمتها؛ فيدخل في حياة جديدة ملؤها الخير، وحشوها السعادة.
وإذا غلبت هذه الحال على الحجاج، فملأت عبودية الله قلوبهم، وكانت هي المحرك لهم فيما يأتون وما يذرون؛ صنعوا للإنسانية الأعاجيب، وحرروها من الظلم، والشقاء، والبهيمية.
فالذكر هو المقصود الأعظم للعبادات؛ فما شرعت العبادات إلا لأجله، وما تقرب المتقربون بمثله.
ويتجلى هذا المعنى في الحج غاية التجلي، فما شرع الطواف بالبيت العتيق، ولا السعي بين الصفا والمروة، ولا رمي الجمار، إلا لإقامة ذكر الله.
قال تعالى:  ))لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ.((
وقال سبحانه:() لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا.((
ارتباط المسلمين بقبلتهم التي يولّون وجوههم شطرها في صلواتهم المفروضة خمس مرات في اليوم.وفي هذا الارتباط سر بديع؛ إذ يصرف وجوههم عن التوجه إلى غرب كافر، أو شرق ملحد؛ فتبقى لهم عزتهم وكرامتهم.إذ يجتمع في الحج من العبادات ما لا يجتمع في غيره؛ فيشارك الحج غيره من الأوقات بالصلوات وغيرها من العبادات التي تفعل في الحج وغير الحج.
وينفرد بالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وإراقة الدماء، وغير ذلك من أعمال الحج.فالحج يهدم ما كان قبله. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: “أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله” 1.
والحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور” 2.
والحج أفضل الجهاد؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “قلت يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال؛ أفلا نجاهد؟ قال: لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور” 3.
والحج المبرور جزاؤه الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” 4.
والحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه إذا كان حجه مبروراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” 5.
ففي الحج تهيج الذكريات الجميلة العزيزة على قلب كل مسلم، وما أكثر تلك الذكريات! وما أجمل ترددها على الذهن!
فالحاج – على سبيل المثال – يتذكر أبانا إبراهيم الخليل عليه السلام فيتذكر توحيده لربه،وهجرته في سبيله، وكمال عبوديته، وتقديمه محبة ربه على محبة نفسه.
ويتذكر ما جرى له من الابتلاءات العظيمة، وما حصل له من الكرامات والمقامات العالية.
ويتذكر أذانه في الحج، ودعاءه لمكة المكرمة، وبركات تلك الدعوات التي ترى آثارها إلى يومنا الحاضر.
ويتذكر الحاج ما كان من أمر أمنا هاجر – عليها السلام – فيتذكر سعيها بين الصفا والمروة بحثاً عن ماء تشربه، لتدر باللبن على وليدها إسماعيل، ذلك السعي الذي أصبح سنة ماضية، وركنًا من أركان الحج.
ويتذكر أبانا إسماعيل عليه السلام فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه في بناء الكعبة، ويتذكر ما كان من بر إسماعيل بأبيه؛ إذ أطاعه لما أخبره بأن الله يأمره بذبحه؛ فما كان من إسماعيل إلا أن قال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين.
ويتذكر الحاج أن مكة هي موطن النبي صلى الله عليه وسلم ففيها ولد وشب عن الطوق، وفيها تنزل عليه الوحي، ومنها شع نور الإسلام الذي بدد دياجير الظلمات.
ويتذكر من سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين، فيشعر بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون.
ويتذكر الصحابة رضي الله عنهم وما لاقوه من البلاء في سبيل نشر هذا الدين.
الحج كله .. ذكريات وعبر.. نسأل ان نستفيد منها في هذه الأيام المباركة.
----------------
[1] رواه مسلم.
[2] رواه البخاري.
[3] رواه البخاري.
[4] رواه مسلم.
[5] رواه البخاري ومسلم.