بقلم الشيخ جمال الدين شبيب:
ينقسم الناس بشأن تجديد الفكر الإسلامي إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول:أهل الغلو في الإنغلاق:
هم خصوم التجديد، الذين يجمدون على الموروث، ويريدون أن يبقى كل قديم على قدمه.حكمتهم المأثورة: "ما ترك الأول للآخر شيئاً .وشعارهم المرفوع: "ليس بالإمكان أبدع مما كان" .وهكذا فإن منهج هؤلاء يقوم على التقليد والمحافظة، والذي من أهم خصائصه الأمور التالية:
1- الاستغراق الكامل في النصوص، والوقوف بصفة خاصة عند الأحكام الفرعية التي تستخلص من هذه النصوص، والوقوف- فوق ذلك - عند ظواهر تلك النصوص. واعتبار ذلك من علامات الإتباع المحمود، الذي يقابل "الابتداع" المذموم، والتوقف عن البحث الطويل في حكمة التكليف ومقاصد التشريع وأولويات المطالب الدينية للأفراد وللأمة، وعن النظر في إمكان تغير تلك الأولويات باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
2- إساءة الظن بكل مذهب أو رأى أو اجتهاد يدعو إلى استخدام العقل والتعويل عليه في استنباط الأحكام الفقهية وتقرير الأمور الدينية.
واعتبار هذا الاستخدام تهديداً لقدسية الشريعة، ومدخلا لتحكيم الهوى، وتمرداً على حكم الله الذي تقرره الآية القرآنية الكريمة: ﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾ (الأحزاب: 36).
ويلخص أتباع هذا المنهج موقفهم من هذه القضية بقولهم: إن الشريعة حاكمة لا محكومة. وأن على المؤمنين بها أن يطبقوا أحكامها الكلية والجزئية ﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ (النساء: 65).
3- المبالغة في تقديس آراء علماء القرون الأولى من تاريخ الإسلام ومتابعة تلك الأقوال والآراء امتثالاً لما ورد به حديث النبي- صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ولما اشتهر عنهم من الجمع بين العلم والعمل به، وبين المعرفة والتقوى.
على نحو كانوا معه أئمة في العلم وقدوة للأمة في السلوك والعمل. وليس هذا- فيما يرى أتباع تلك المدرسة حال المحدثين من العلماء والمشتغلين بالفقه، بل إن هؤلاء المحدثين - في نظر أتباع هذه المدرسة - مظنة الافتتان بحضارات الآخرين، والاستعداد العقلي والنفسي لتقبل آراء أولئك الآخرين. وتعريض خصوصية الإسلام، وثوابت عقيدته وشريعته لأخطار عظيمة.
4- المبالغة في رفض كل فكرة وافدة، والحذر الشديد من الأخذ بشيء مما عليه أتباع الحضارات الأخرى والانحصار بذلك في الإسلام التاريخي والإسلام الجغرافي. اعتقاداً بأن غير المسلمين متآمرون أبداً على الإسلام والمسلمين. وأن الإسلام متميز ومتفرد بخصائص ذاتية تنفى عنه مشابهة أي حضارة أخرى وأي نظام آخر عرفه الناس قديما أو يعرفونه حديثاً. وأن أي لقاء بين الإسلام وحضارته وبين عقيدة أو حضارة أخرى لا يمكن إلا أن يكون لقاء عابراً تعقبه مفارقة كاملة ويحكمه اختلاف أساسي. لأن التصور الإسلامي كله تصور متميز تماماً.
ونحن لا نخفي استدراكنا على كل المقولات المكونة لهذا المنهج. واعتقادنا بأنها تؤدى إلى انكماش الحضارة الإسلامية، وتراجع شأن المسلمين. كما أنها تلزم المؤمنين بما لم يلزمهم به الله. وتملأ حياتهم عسراً وحرجاً وحيرة. وهى أمور تنافى ثوابت كبرى من ثوابت المنهج الإسلامي السليم الذي تشهد له نصوص قطعية في كتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
كذلك لا نخفي أننا نعتبر اقتحام مصاعب التجديد بعد عصور طويلة من الجمود والانغلاق. سبيلاً وحيداً لنهضة الأمة وانبعاثها وتجدد دورها في زيادة المسيرة الإنسانية توجهاً إلى قيم الحق والعدل والرحمة والسلام. [من مقال أ. د./ أحمد كمال أبو المجد، تجديد الفكر الإسلامي في إطار جديد].
الصنف الثاني : أهل الغلو في الانعتاق:
الصنف الثاني:وهم على نقيض الصنف الأول، فإذا كان الصنف الأول غالوا في تقديس كل ما هو قديم، فهؤلاء غالوا في التجديد إلى درجة أنهم يريدون أن ينسفوا كل قديم، وإن كان هو أساس هوية المجتمع ومبرر وجوده، وسر بقائه.
ذلك هو تيار التغريب والحداثة الغربية، الذي نظر أهله، إلى الغرب فقط، فقلدوه وجمدوا على مقولات ثقافته وفلسفاته. كما نظر أهل الجمود التراثي، فقط إلى الماضي، فقلدوا مقولات سلف عصر تراجعنا الحضاري، وجمدوا عند ظواهر نصوصها.
فتجديد هؤلاء هو الدعوة لاقتباس ما عند الغرب بخيره وشره وحلوه ومره، وهؤلاء هم الذين سخر منهم مصطفى صادق الرافعي رحمه الله حين دخل معركته معهم "تحت راية القرآن" وقال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر. وردَّ عليهم شاعر الإسلام محمد إقبال بأن "الكعبة لا تُجدد بجلب حجارة لها من أوربا". وأشار إليهم أحمد شوقي في قصيدته عن الأزهر:
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا من مات من آبائهم أو عمّراً
مـن كل ســـــاع في الـقديـــم وهـد مـه وإذا تـقدم للبنـاية قصـراً
وهذا الصنف والذي قبله هما اللذان شكا منهما الأمير شكيب أرسلان حين قال: " إنما ضاع الدين بين جامد وجاحد، ذلك ينفر الناس منه بجموده، وهذا يضلهم عنه بجحوده. [القرضاوي، حول قضايا الإسلام والعصر ص 84].
الصنف الثالث :أهل الأصالة والمعاصرة:
وبين هذين الصنفين يبرز صنف وسط، يرفض جمود الأولين وجحود الآخرين، ويلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، ويقبل التجديد، بل يدعو إليه وينادي به، على أن يكون تجديداً في ظل الأصالة الإسلامية هذا التيار، هو تيار الإحياء لأصول الإسلام وثوابته، بالعودة إلى المنابع الجوهرية والنقية لهذا الدين الحنيف، والنظر فيها بعقل معاصر، يفقه أحكامها، كما يفقه الواقع الذي يعيش فيه.
ففي هذا التيار- الإحيائي والتجديدي - تتوازن " الثوابت "- الدائمة الثبات. والضامنة دوام إسلامية النسق الفكري على امتداد الزمان والمكان - مع "التجديد" في الفروع التي تطرحها متغيرات الواقع ومستجداته. الأمر الذي ينفى القطيعة "قطيعة للجديد والتجديد" مع "الثوابت والثبات ". كما ينفى "الجمود والتقليد"، وهكذا فإن أصحاب هذا التيار يرون أن التجديد ضرورة دينية لحفظ الدين، لأن الحياة ليست جامدة، وبالمثل يجب أن نفهم أن الدين الذي ينبغي أن يحكمها ليس جامداً، وبدون التجديد يقع خلط الصواب بالخطأ والحق بالباطل والعلم بالخرافة.
وإذا وقع مثل هذا الخلط فلا غرابة أن يصبح الدين أفيوناً. ولا نقصد بالخلط عدم تمييز الصواب والحق والعلم من الخطأ والباطل والخرافة، وإنما يقع في أوهام الناس نتيجة الإرث الطويل فيصبح التدين مجرد تقليد السابقين ويصدق فيهم قول الله تعالى على لسان الكافرين تقليداً ﴿ قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ﴾. نقصد بالخلط المفسد اعتبار ما يقع من اجتهادات العلماء الفضلاء ديناً لا يقبل الرد، لأن كل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه، ولو كان صحابياً جليلاً.
انظر آراء الصحابة الكرام، خالفهم فيها صحابة آخرون وهذا كثير. ثم انظر ما قاله ابن تيمية رحمه الله: "فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين ومن بعدهم إلا خفي عليه وجه السنة في الأدلة الشرعية، أو غابت عنه الأدلة أصلاً في بعض المسائل" [عبد الحليم أبو شقة، نقد العقل المسلم ص 175].
الدكتور الترابي أنموذجاً
ومن أروع من يمثل هذا المنهج الوسطي المقاصدي في الفكر الإسلامي المعاصر بين الانعتاق والانغلاق الدكتور حسن الترابي في كتابه الرائع ( قضايا التجديد "نحو منهج أصولي" ج1.
وقبل أن نتحدث عن كتاب الترابي «قضايا التجديد: نحو منهج أصولي» لابدّ من الإشارة إلى المقدمة الرائعة التي خطّها الأستاذان: محمد الحامدي ومحمد الميساوي، والتي أشادا فيها بالدور الريادي للدكتور حسن الترابي في ميدان التجديد، والذي تجاوز فيه "مجرد الدعوة إلى النظر في تراثنا الأصولي، كما تجاوز التناول الجزئي لبعض مفاهيم علم الأصول وقضاياه، متوفراً على صياغة نظرية متكاملة للتديّن" .
وذلك لأننا نعيش في ظروف معقّدة لم تعد مجرد إعادة الثقة بالدين والإقناع بجدواه في الحياة أمراً كافياً، فذلك هو أقل المطلوب، أما الآن فالمطلوب من حركة الفكر الإسلامي كما يذكر الحامدي والميساوي: "أنْ ترتاد بالمسلمين أفقاً أرْحَب ومستوى أعمق على صعيد بلورة المشروع الإسلامي وفق رؤية أصولية شاملة" .
ويشير الأستاذان إلى أن دعوة التجديد التي حمل الترابي لواءها في السبعينات توشك الآن أن تتحول إلى تيار دافق يتوزع رموزه بين أقطار عربية مختلفة.
والكتاب الذي بين أيدينا عبارة عن مجموعة من الرسائل والمحاضرات كتبها المؤلف أو ألقاها في مناسبات مختلفة – وقد جاء هذا الكتاب في خمسة فصول تتناول جميعها موضوع التجديد وقضاياه من زوايا مختلفة، ولكنها تصبّ في نفس الاتجاه وتعزز نفس الفكرة، وهذه الفصول هي: (الدين والتجديد - مشكلات التجديد - تجديد الفكر الإسلامي - تجديد أصول الفقه - منهجية التشريع الإسلامي - قضايا التجديد: نحو منهج أصولي)
يؤسس الترابي دعوته إلى التجديد على الواقع الراهن، ذلك أنَّ حاجتنا إلى التجديد إنما تنبع من واقع ضعفنا وهيمنة الحضارة الغربية، مع أننا نحن أصحاب الماضي المجيد والتراث العريق.
وهذه الحاجة إلى التجديد ليست ترفاً فكرياً أو بدعة ممقوتة، وإنما هي نابعة من أصل هذا الدين. فالدين كما يُعرّفه الترابي "توحيد بين شأن الإنسان في الدنيا وشأنه في الآخرة، بين الثابت المطلق والنسبي المتحول" .
وما دام الدين - من حيث هو خطابٌ للإنسان ثم كسبٌ منه- واقعاً في الإطار الظرفي، فلا بدَّ أنْ يعتريه شيءٌ من أحوال الحركة الكونية، ولكنه من حيث هو صلة بالله متعلق بالأزل المطلق الثابت، إنما يقوم على أصول وسنن ثابتة لا تتبدل. فهو بهذا وذاك "قائمٌ على ردِّ الشأن الظرفي المتحوِّل إلى محور الحق الثابت، وردِّ الفعل الزماني إلى المقصد اللانهائي" . ومعنى ذلك أنه يلزم منه حركة تصحح وجهته لئلا ينحرف عن سنة الله الواجبة.
وهكذا يرى الترابي أنَّ الدين يدور بين الثابت المطلق والنسبي المتحوِّل. ويُعزز لنا ذلك بأمثلة واضحة لا يُجادَل فيها:
فمن الثابت مثلاً ما في الوحي من أخبار الغيب، فهذه ثابتة في كل الرسالات وفي كل الأزمان وإن اختلفت صورة التعبير عنها. ولكن في المقابل هناك المتغير، كالشرائع الفرعية المتصلة بأحوال الوجود الزمني المتحرك، وهنا تغدوا الحركة جائزة في شرع الله، ليوافق ظروف قدر الله، ويبقى معبراً عن حق الله.
وعلى ذلك يرى الترابي التجديد شرطاً لأصالة التديّن واستمراره، وهو بذلك شرطٌ للتوحيد في الدين، فإذا لم تتجدد العبادة حالاً من الزمن بعد حال، انقطع اتصالها بثغرة زمنية، وإذا لم تتحقق في التاريخ جيلاً بعد جيل، انحجب عنها جيل. لأن التجديد "ينطوي على إثبات البعد الروحي للإنسان –أخص خصائص البشر- ذلك أنه يُثبت قدرة الإنسان على تجاوز ظروف التاريخ الذي يتّجه بعاقبه وكثافته إلى أنْ يحجب الإنسانَ عن أصول الوحي والشرع الأول" .
ويُقرّر الترابي حاجتنا إلى التجديد انطلاقاً من حيوية أحكام الشريعة وعدم جمودها، التي تتيح لنا الفهم والاستيعاب ووضوح الرؤية ضمن معطيات الزمن الذي نعيش فيه. فالشريعة تنـزَّلت أحكاماً حيَّة على واقع متحرِّك، موصولة بالمقاصد المتبغاة منه.
..وهذه الأحكام قد تكون مرتبطةً بأمور ثابتة لا تتحول، ولكنها في المقابل قد تُناط بقاعدة ظرفية متغيرة فتتغير معها الأحكام، لأنها وردت أصلاً بصورة متسعة تُتيح تَمثُّلها في الواقع بصور شتى حسب ما تتطلبه الظروف الخاصة، "بل قد تجيء الأحكام أحياناً ناصبة للمؤمنين مقصداً واجباً تاركةً لهم وسائل تحقيقه عفواً حسبما يتهيّأ لهم في كل زمان، وتجيء المعاني هادية إلى موقف إيمان كلّي تاركة لهم تفصيلاته وتأويلاته ووجه التجادل فيه أو التفاعل به حسبما يقتضي الابتلاء الظرفي المعين" .
ويؤصِّل الترابي لذلك بالإحالة على النموذج الشرعي الأول بتوجهاته وسننه العملية، فإنه - من وجهة نظره- يُشكِّل بناءً عضوياً حياً يُمَكِّن المستقرئ والمعتبر من إدراك فقه الاعتقاد والعمل في الشريعة، ومن ترتيب علاقاتها وأولوياتها المتكاملة، ومن تركيب ما يتلازم فيها من مظاهر الأوضاع والأفعال وباطن النيات وما يتقابل مع صالح الواعظ الديني وفاسد الواقع الاجتماعي، ومن التمييز بينما هو وسائل وذرائع وما هو مقاصد وعلل، أو بين ما هو هوامش وثانويات وما هو أركان وأصول .
وحريٌّ بنا أن نشير إلى حضور مفهوم التوحيد لدى الدكتور حسن الترابي في كل القضايا التي يعالجها، حتى إنه لا يتناول شأناً من شؤون الفكر والحياة إلا وهذا المفهوم حاضر لديه بكل قوة ووضوح.
ويركز الترابي في طرحه لقضية التجديد الديني على أن الدين حركة توحيد بين التعلق الإيماني بالأزل، والتعلق العملي بالظروف، بين الإنسانية والبشرية، بين الروح والمادة. فالتوحيد عند الترابي هو "مفتاح الحياة الدينية، وهو من ثم مفتاح العلم الديني، فلا بد من تجلي المبدأ التوحيدي في وحدة منهج العلوم قاطبة، ثم في وحدة عناصر المنهجية المختصة بكل علم، وكما كان الشرك نقيض التوحيد فإن سمات المنهج العلمي الإشراكي تتميز عن المنهج الإسلامي التوحيدي بتجزئتها للحق والحقيقة، وغُلوِّها في اعتبار أو اعتبار مقابل، وتناقضها وانقطاع نسقها النظري والتاريخي" .
ولعلَّ الترابي كان صاحب فكر ثاقب حين تناول التجديد بصورته العامة، وتجاوز مرحلة الحديث عن جزئيات الأحكام وفرادى النصوص، إلى مرحلة تأصيلٍ جديد على صعيد نسق الدين ونظامه المتكامل.
السلفية المعاصرة: إنغلاق على القديم
ثم ينتقل الترابي للحديث عن السلفية والتجديد، ونجد أنه يقارن بين السلفية الأولى التي كان أصحابها رجال أصول أكثر مما كانوا رجال فروع، وبين من يَتسمَّون بالسلفية الآن، والذين يَرون الدين متمثلاً في تاريخ المتدينين، ويتعصبون لهذا التاريخ، ويقلدون السلف لا في مقاصدهم ومسالكهم، بل في حرفية أفعالهم وأقوالهم. ويصف هؤلاء بأنهم أهل ثقافة صاغها الانغلاق على القديم، ولا يعلمون كثيراً عن الواقع الحاضر الذي يُراد أن يقام فيه الدين.
وأنا مع الترابي في أنَّ ما يقوم به هؤلاء إنما هو بحسن نية، ولكنه للأسف تصرّف قد لا يخدم الدين بقدر ما يوجِد الكثير من العراقيل في طريقه. ذلك أن بعض الصور القديمة لو تم إقحامها في واقع مختلف، ربما تُحدث من النتائج ما يجافي مقاصد الشريعة ويناقض سائر أحكامها.
علينا إذاً أن نعي تصرّفات السابقين وفق مقاصدها والغرض التي حرصت على تحقيقه، أكثر مما ننظر في حرفيتها. لأنّ ذلك قد يكون سبباً في بُعدنا عن روح النص ومقصده. وعبارة الترابي في ذلك هي في غاية الجمال، إذ يقول: "ومهما كان تاريخ السلف الصالح امتداداً لأصول الشرع فإنه ينبغي ألا يُوقَّر بانفعالٍ يحجب تلك الأصول. ذلك أن التقاليد كلما تباعدت طبقات توارثها تواردت عليها المدخلات الظرفية التي تباعد ما بينها وبين المصادر الأولى" .
ولا يقولَّن قائلٌ بأنَّ الترابي يريد بذلك أن يهدم تراث الأمة ، وأنْ يلغي فهم السلف لأصول الدين، لأن هذا لا يُفهم من كلامه ولا يمكن أنْ يقصده مثله، وإنما يريد أن يفرِّق لنا بين أصول الشرع وتصرفات السابقين المترتبة على هذه الأصول، وأنْ يميِّز لنا بين أصول الدين (نصوص القرآن والسنة) وبين أصول التفقه في الدين ومناهج تنـزيله على الواقع.
فما الضير مثلاً لو غيرنا في بعض معايير علم أصول الفقه وبما يتفق مع مقاصد الشريعة ولا يتنافى مع نصوص القرآن والسنة. علماً بأن الشافعي نفسه وهو أول من كتب في الأصول لم يكن يعلم بذلك أنه يؤسس لعلم جديد. فهل نتعامل بعد ذلك مع أصول الفقه كما نتعامل مع نصوص القرآن والسنة ؟
الإمام الشافعي رائد "الفكر المقاصدي"
وإن المتتبِّع لمباحث الفكر المقاصدي في التراث الإسلاميِّ، يجد أن مقاصد الشريعة ليستْ عِلمًا مستقلاً عن علم أصول الفقه؛ لأن ما استُخدم في مقاصد الشريعة في أغلبه يرجع أساسًا إلى علم أصول الفقه، لا مِن حيثُ المصطلحاتُ، ولا القواعد، ولا المناهج، وإن كان من تجديدٍ في المصطلحات فلا يصل إلى درجة انقلاب العلم إلى غيره، وإنما هو تجديد في صلب العلم وفي بنيته.
نعم، هناك إضافات أضافَهَا أعلامُ الفكر المقاصدي، ومفاهيم أيضًا اقتبسوها من علومٍ وفنون أخرى، ووظَّفوها في علم أصول الفقه من باب مقاصد الشريعة؛ لكن هذه الألفاظ لم تبلغ درجةَ الخروج عن علم أصول الفقه وحدِّه، وأقصى ما يمكن أن يقال: إنهم طوروا بابًا من أبواب علم أصول الفقه، وهو طور كبير وعظيم جدًّا.
والإمام الشافعي (ر) كان يرى أن عِلم النحو أو علم اللغة العربية، لم يكن كافيًا لفهم النصوص الشرعية ومقاصدها؛ بل هناك فرق كبير بين شكل الخطاب العربي، وبين مقاصده؛ فالنحو ما يضبط في العربية شكلَ الكلام؛ هل ترفع أو تنصب أو تجر؟
ومن المعروف أن النحو لا يهتم بالمعاني أصلاً، فلو قلتَ: "أكل الحجرُ ولدًا"، لصحَّتْ من الناحية النحْوية؛ ولكن من حيث المعنى لا تصحُّ، فالنحوُ اهتم بالشكل، والبلاغةُ اهتمَّتْ بالجمال اللغوي، من التشبيه، والإيجاز، والاستعارة، والطباق، والجناس، ونحوها، إذًا بقي جانبٌ آخر يتعلَّق بمقاصد الخطاب لم يُضبَطْ بعدُ.
ومقاصد خطاب الشارع لا تُدرَك إلا عند تكييف الخطاب في الواقع عند تطبيقه، وهو مراد الشارع - عندما يتعلق بالخطاب القرآني والحديثي - من الكلام، كيف ينزل هذا الأمر، ولا يستطيع أن يضبطها مَن كان ملمًّا بالنحو، ولا البلاغة، ولا أي علم من العلوم التي تُتلقَّى، سواء بالنقل، أو بضبط القواعد المستقرأة من العربية العامة، إلا من كانت له خبرة بمقاصد الخطاب العربي، وهو ما يسمَّى بقصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
وهذا القصد الشرعي يحتاج إلى أمور، منها: إتقان العربية في فصاحتها، وأصالتها، وبلاغتها، ومساقات استعمالها، ليس في نحوها فقط؛ بل كيف كانت تستعملها العرب؟ وفي أي ظروف؟ فيحتاج هذا الأمر إلى عربي أصيل فعلاً.
وكذلك كان يُطلب في ضبط المساقات نوعٌ من التمرُّس على كتاب الله - عز وجل - وعلى سنة نبيِّه - عليه الصلاة والسلام - من حيث الاستنباط، والتعامُل الفقهي مع النصوص، وهذا الأمر معلومٌ أن الإمام الشافعي قد تفرَّغ له، سواء من حيث تتلمُذُه على الإمام مالك، أو من حيث إبداعه - رحمه الله - حتى كان له مذهبه المشهور.
وقد نبّه الامام الشافعي إلى استعمال عُرْف الكلام، ومعهود الاستعمال، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدلُّ على أن الإمام الشافعي - رحمه الله - كان يستقرئ طُرُق العرب في تنزيل الكلام في الواقع، ليس فقط من حيث الفهم العام، وهو ليس المقصود بمبدأ الإفهام، ولكن يتعلق بإفهام الكيفيات.
.. فالمقصود من حديث النبي (ص) : ((صلوا كما رأيتموني أصلي))[ رواه البخاري، رقم 6008.]؛ أي: كما وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - للهيئة والكيفية التي تتعلَّق بالتحقيق الواقعي والتنزيل، وكذلك حديث: ((خُذوا عني مناسككم))[ أخرجه مسلم 2/943، وأحمد 3/318، واللفظ لأحمد.]؛ يعني: كما ترون، فهذا هو الإفهام الذي كان يتحدَّث عنه الإمام الشافعي، ويبين كيف يُفهم من النصِّ الهيئةُ، والتطبيق، والتنزيل؟ولا يَفهم ذلك إلا مَن أدرك عُرفَ الاستعمال ومقاصدَه، وهيئاتِ التنزيل وكيفياته لدى العرب.
ومن يقرأ كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي؛ سيرى أن بداية علم أصول الفقه، كانت أساسًا تعالج مشكلة "فهم" أي استيعاب للمقاصد عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سواء من حيث الدلالة اللغوية الطبيعية، أو الدلالة (الدلالية) الأصولية التقعيدية؛ بل إن هذه إنما هي تطوُّر عن تلك، فيما يتعلق بفهم النص الشرعي خاصة، كما يتبين من نص الإمام الشافعي المذكور سلفًا، والمتعلِّق بكون خطاب الله إنما هو بلسان العرب على ما تعرف من معانيها، قال: "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها".
ومن هنا وجدنا كثيرًا من النصوص التي تؤرِّخ لهذا العلم، تؤكِّد هذا، معلِّلةً إياه بالتحوُّل الاجتماعي، الذي طرأ على العرب بإسلام العجم، مما أدَّى إلى نشأة جيل فشا فيه اللحنُ، وضاعتْ منه الفصاحةُ نطقًا واستيعابًا، فأثَّر ذلك على فهم النص وبالتالي المقصد الشرعي.
بناء على ذلك كله؛ فإن الإمام الشافعي كان أول من نبَّه على منهج الفكر المقاصدي، بل إنه أول من وضع ضوابط لفهم مقاصد الشريعة، والتي سماها الإمام الشاطبي "بالأدوات التي بها تفهم المقاصد"["الاعتصام"، للشاطبي، 2/293.].
ونحن اليوم أحوج ما نكون لاقتفاء آثار أولئك الائمة الإعلام من السلف والخلف في متابعة طريق التجديد وتجلية الفهم المقاصدي للنصوص الإسلامية ولا سيما في الأحكام العملية في عصرنا الحاضر انطلاقاً من الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة حتى تتمكن الأمة من الانعتاق من ربقة الجهل والتقليد الأعمى والانطلاق بثبات إلى ميدان الانعتاق والتجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق