ما يجري اليوم في إيران هو تحرك أوسع وأشمل من الاحتجاجات التي شهدتها في عامي 1999 و2003 والتي اقتصرت على أحداث صنعها أفراد من عامة الشعب أخفقوا بالتواصل مع الطبقة السياسية في البلاد أوالنفاذ عبرها.
صحيح أن شرارة المظاهرات انطلقت من خلال جامعة طهران، لتتطور بعدها وتمتد وتستحيل أعمال عنف في شوارع المدينة تثير ذكريات المد الثوري الذي يريد القليل من الإيرانيين رؤيته يتكرر أمامهم من جديد.
لكن الاحتجاجات اليوم لم تنطق من القاعدة الى القمة بل من القمة نفسها مروراً بالقاعدة الشعبية . عندما يحاول البعض أن يرى في فوز الرئيس أحمدي نجاد محاولة لاستبعاد قادة اصلاحيين أساسيين من ميدان صنع السياسة الإيرانية.
موسوي رجل العلاقات
الرجل الذي يقود الاحتجاجات اليوم هو المرشح الرئاسي الذي نافس الرئيس محمود أحمدي نجاد وحلَّ في المرتبة الثانية بنتيجة الانتخابات، ليس بذلك الرجل الدخيل ذي الوزن الخفيف أو الضئيل الأهمية.
فقد تقلَّد الرجل منصب رئيس وزراء البلاد منذ عام 1981 حتى سنة 1989، وقد حظي بشكل عام بتقدير عالٍ لإدارته شؤون البلاد اليومية والعبور بها إلى بر الأمان خلال الأعوام الثمانية تقريبا التي دامتها الحرب الضروس بين إيران وجارتها العراق.
وموسوي هذا من أشدِّ المقرَّبين والمناصرين لعلي-أكبر هاشمي رفسنجاني الذي يتمتع بدوره بوزن أكبر في اللعبة السياسية في البلاد، وكان دوما أحد الأركان الأساسية للجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها.
ورفسنجاني، الذي تولى رئاسة الجمهورية الإسلامية مرتين متتاليتين بين عامي 1989 و1997، هو سياسي محافظ براجماتي (واقعي) يدعم موسوي بقوة.
ويترأس رفسنجاني الآن اثنتين من أقوى هيئات النظام: أي مجلس تشخيص مصلحة النظام (والذي يبتُّ بالنزاعات والخلافات المتعلقة بالتشريعات وتلك التي تنشأ بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور ويمكنه الاعتراض على أي تشريع يقره مجلس الشورى) ومجلس الخبراء (الذي يعيِّن، ويستطيع نظريا، استبدال المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية).
كما أن موسوي يحظى أيضا بالدعم والمساندة من قبل رئيس سابق آخر حكم البلاد لفترتين رئاسيتين متتاليتين، ألا وهو الشخصية الإصلاحية محمد خاتمي، والذي سحب ترشيحه للانتخابات هذا العام لصالح موسوي، وهو يدعو الآن لإلغاء الانتخابات وإعادة عملية الاقتراع من جديد.
وقد عبَّر عن هذا المطلب أيضا أحد المرشحين الثلاثة الذين خسروا الانتخابات، وهو محسن رضائي، الذي كان قائدا للحرس الثوري لمدة 16 عاما، ويُعدُّ أحد أركان النظام الأساسيين.
نجاد رجل الشعب
ولكن على الرغم من ذلك فلا يمكن اعتبار أحمدي نجاد (وهو أول رئيس إيراني لا ينتمي إلى سلك رجال الدين) لا يحظى بالتأييد والدعم من الشعب أو القوى المسلحة أو حتى المؤسسة الدينية في مدينة قُمّ.
حيث يُعتقد أنه يتمتع بدعم كبير في أوساط قوات وقادة الحرس الجمهوري وقوات الباسيج (المتطوعين) التابعة لها.
كما أن أحمدي نجاد قد حقق نصراً مثيراً أيضا بحصوله على التأييد والدعم في أوساط الفقراء والمستضعفين، وذلك من خلال انتهاجه استراتيجية شعبوية وسياسية واقتصادية تميل لصالحهم. حيث قام بتوزيع الأموال في المناطق الريفية بطريقة يقول عنها منتقدوه إنها أضافت إلى المآسي والمحن التي تتعرض لها إيران، الأمر الذي ولَّد وفاقم التضخم العالي الذي تعيش البلاد تحت وطأته الآن.
ويبدو الآن أن الشرخ الذي نشأ قد تخطَّى الانقسام القديم الذي كان قائما بين المحافظين والإصلاحيين ضمن النظام الإيراني.فقد وحَّد الشقاق هذه المرة بعض العناصر المتواجدة على الجانبين.وذلك في مواجهة خط نجاد الشعبي العسكري الميَّال إلى المجابهة والصراع مع الغرب.
اثنين إلى واحد
وعلى الرغم من أن النتيجة لم تكن مفاجئة للمراقبين . فقد توصل استطلاع للرأي في الولايات المتحدة ونُشرت نتائجه في صحيفة الواشنطن بوست إلى نتيجة مفادها أن الهامش الكبير والمفاجئ من النصر الذي حققه نجاد على خصومه في الاستطلاعات إنما قد يعكس في الواقع إرادة حقيقية أصيلة للشعب الإيراني.
فقد أشار الاستطلاع، الذي أُجري قبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات إلى أن نجاد كان سيفوز بنسبة اثنين إلى واحد، أي بنسبة أعلى من تلك النتيجة الحقيقية التي أُعلنت بعد الانتخابات.
ولكن الاحتجاجات الجماهيرية واعمال العنف المتصاعدة كانت سيف موسوي في مواجهة إرادة الناخبين التي أذاقته مرارة الهزيمة بـ 11 مليون صوت تشكل الفارق في الأصوات بينه وبين الرئيس أحمدي نجاد.
لكن تتابع الأحداث وتفجرها دفع قائد الثورة الاسلامية في ايران اية الله السيد علي خامنــئي لإصدار أوامره لمجلس صيانة الدستور، وهو المثيل الايراني للمــحكمة العليا الاميركية، باجراء اعادة فرز محدودة للاصوات، لتحديد ما اذا كانت هناك من مخالفات.إضافة الى أصدار أوامره بمنع التظاهرات غير المرخصة والتي يسعى الغرب لاستخدامها في تشويه أو تقويض النظام إن استطاع..
الإرهاب الالكتروني... مؤامرة الغرب ضد إيران
وفي المحصلة، في حال لم يُنزع فتيل أزمة الانتخابات الإيرانية وتُحلحل عقدتها إلى حد ما، فمن الواضح أن استمرار وتصاعد وتيرة الاحتجاجات سيمكن الحلف الغربي الخاسر في مواجهة ايران من استغلال الاجواء الملبدة في طهران، لاستعادة بعض ما فقده عبر المواجهة المباشرة.
ولكن على الرغم من سقوط ضحايا بريئة وجرحى وتخريب في الممتلكات الخاصة والعامة مما لا تخلو منه احتجاجات أقل خطورة بكثير مما يجري في إيران.. لكن هذا الدم النازف الذي يحاول وضع << ولاية الفقيه>> أمام أول اختبار قاسٍ .. يستدعي من كافة القوى الإيرانية المتنازعة والمراقبة اجراء دراسة تقويمية جدية للأخطار وعدم الانشغال بالازمات المفتعلة والعمل والتعاون لتجاوزها بسلام . وبالتالي إفشال مخططات الغرب المتربص، والتي باتت أكثر وضوحاً.
ولاسيما بعد الحشد الاعلامي والسياسي الغربي غير المسبوق واستغلاله لأحداث ايران بما يؤكد سعيه لفرض انقلاب مخملي مستفيداً من اندفاع ودماء الشباب المحتج .. ولكن لتحقيق مصالح الغرب وعلى رأسه اشنطن وربيبتها اسرائيل لا مصالح الشعب الايراني. وهذا مما يهدد مصالح اقليمية ودولية معادية للتوجهات والسيسات الغربية الاستعمارية التي تمثلها ايران وروسيا والصين وقوى الممانعة في المنطقة توصلاً لفرض مشروع الشرق الاوسط الكبير (اسرائيل الكبرى) بطرق مختلفة هذه المرة.
هذا ما يؤكده ما كشفه مفتش الاسلحة السابق للامم المتحدة سكوت ريتر، في حديثه عن الدور الحاسم الذي لعبته شبكة الانترنت في تغذية الاحتجاجات والتظاهرات المعارضة.
فقد كشف موقع (انترناشيونال اويل دايلي) بأن جارد كوهين،وهو مهندس "الديموقراطية الرقمية" ، كان يعمل في فريق التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الاميركية منذ ايلول 2006 وادار في عام 2008 حركة تحالف الحركات الشبابية التي تركز على كيفية استخدام المواقع الالكترونية كاداة لتعزيز التنظيمات والنشاطات الشبابية لقلب أنظمة الحكم المعادية ، والذي تزامن تنصيبه، مع تلقي وزارة الخارجية الاميركية مبلغا قدره 75 مليون دولار مخصص لحملات اعلامية مناهضة لايران.
وحسب المصدر نفسه فان دور كوهين تضمن ايضا ابتكار اساليب جديدة في استخدام شبكة الانترنت لاهداف مرتبطة بزعزعة الحكومات خاصة وان مجموعته التي يطلق عليها اسم ( بايسوغ) اي ملخص اسم ايران وسوريا، تشمل اضافة الى هذا التخطيط دراسة كيفية تنفيذ عمليات سرية تعتمد سياسة التغيير الناعم للنظام.
ولا يمكن التقليل من اهمية شبكة الانترنت في نقل وصياغة الاخبار الواردة من ايران.
ما زال الالتزام الاميركي بتسهيل "ثورة مخملية" في ايران قائما منذ عام 2006. وقد ورثت ادارة اوباما سياسة "التغيير الناعم للنظام" هذه عن ادارة بوش، الى جانب نشاطات سرية اخرى اكثر صلابة.
وتهدف هذه السياسة الى تعبئة معارضة كافية داخل ايران لانجاز تغيير بحكم الواقع للنظام عبر اخراج الرئيس احمدي نجاد من المنصب الرئاسي،من خلال اصوات المقترعين في انتخابات حزيران 2009.
ولا ننسى دور السفير دينيس روس أحد أهم الاعضاء المؤسسين لـ "معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى" (وينيب)، والذي عمل مستشارا لدى هذه المنظمة منذ تركه الخدمة الحكومية العام 2000. وهو الذي ساعد في التحضير والتسهيل لمحاضرة القاها جارد كوهين في شهر تشرين الاول 2007 امام الـ "وينيب" تحت عنوان : "النساء والشباب والتغيير في الشرق الاوسط".
وكان موضوع كوهين المحوري هو ما اسماه "الديموقراطية الرقمية"، وهو مفهوم يقوم على ان الشباب في الشرق الاوسط "جاهزون بشكل خاص للتاثير الخارجي" عبر"ممرات التكنولوجيا" كالفضائيات التلفزيونية والهواتف المحمولة وشبكة الانترنت.
ودافع روس الذي يعرض اراءه الداعمة لتغيير النظام في ايران في كتاب نشر مؤخرا تحت عنوان "اساطير، اوهام، وسلام: نحو اتجاه جديد من اجل السلام في الشرق الاوسط"، والذي شارك في كتابته زميله في الـ "وينيب" المحلل دافيد ماكوفسكي، عن ابقاء كوهين في وزارة الخارجية وعن المضي قدما في عملية "ايسوغ" الهادفة الى تحريك الشباب داخل ايران في انتخابات حزيران 2009 الرئاسية، طالما لا يمكن ايجاد اي دلائل تربطها بالولايات المتحدة.
وسائل الإعلام الأميركية والغربية تروج اليوم لحملة منظمة بعناية، لتسويق مير حسين موسوي كبطل محتمل لإحداث التغيير المرتقب في إيران .خاصة عندما تطلق عليه تسمية "البطل المفاجئ لحركة قوية يحركها الشباب" في ايران.
السلطات الإيرانية: استيعاب الأحداث
لكن ذلك كله لا يخفى عن قادة طهران، فمنذ اعلان وزيرة الخارجية الاميركية السابقة كوندليسا رايس، عن نيتها تمويل نشاطات خفية هدفها تغيير النظام الايراني في العام 2006، والحكومة الايرانية على أهبة الاستعداد أمام اي اشارات بالتحضير لـ"ثورة ناعمة" تتبع النموذج الغربي.
حيث تبقي الحكومة الايرانية، فوق الجبال المشرفة على شمال طهران، على مركز ضخم للتنصت الالكتروني، حيث تراقب تلك الاتصالات الخلوية، والقنوات الفضائية، والتفاعلات على شبكة الانترنت التي يعتبرها جاريد كوهن مسهلة لانجاز"الديموقراطية الرقمية".
و يبدو ان المحرك للجهود الواسعة التي قامت بها الحكومة الايرانية من اجل ايقاف الاتصالات بين ايران والغرب، هو اطلاعها على حيثيات التنسيق بين بعض الطلاب الايرانيين والاطراف الخارجية، التي كشفتها الاجهزة الامنية.
وبينما يبدو الاضطراب الناتج عن الجدل المحيط بالانتخابات الرئاسية مستمرا، يتم تدريجيا اعتقال القادة الاساسيين لـ "الديموقراطية الرقمية" في ايران، من قبل السلطات الحكومية، وذلك عبر التكنولوجيا ذاتها التي استعملها هؤلاء لبناء حركتهم.
ويبقى المدى الزمني الذي ستتمكن الحركة الداعمة لموسوي من خلاله من المحافظة على زخمها رهنا بالتكهنات.
كما انه من شبه المؤكد انهم لن ينتصروا، وان الحكومة التي ستحكم ايران بعد هذه الدوامة من الاضطرابات ستكون اكثر محافظة، واقل ميلا للتعامل مع الغرب، مما كانت عليه قبل الانتخابات.
وعوضا عن كسر الحواجز بين الغرب و ايران، ستكون مناورة "الديموقراطية الرقمية" من جانب ادارة اوباما، قد نجحت في اقامة حواجز اكبر امام اي تقارب.
البرنامج النووي الإيراني : الى الحرب سر
وفي غياب اي مخرج دبلوماسي جديد له، سيبقى الجدل الذي يحيط ببرنامج ايران النووي من دون حل، مغذيا تصميم بعض العناصر، في الولايات المتحدة وخارجها (خاصة في اسرائيل) التي تدفع باتجاه تغيير النظام الايراني، حتى لوتطلب ذلك استخدام القوة وبالتالي الحرب مع ايران، خامس اكبر منتج للنفط في العالم، وهو آخر ما يحتاج اليه اقتصاد الدول الغربية المرهق، والاقتصاد النامي في الهند والصين.
ربما لن تقع هذه الحرب، في حال افترضنا وقوعها، قبل اشهر او سنوات عديدة.لكن من الافضل لاسواق الطاقة العالمية ان تعد نفسها للعمل في ظل بيئة تتسم بالعداء والتوتر بين ايران والغرب مما سيؤثر سلبا على امن الطاقة لكل المعنيين.