الشيخ جمال الدين شبيب
مما لا شكّ فيه ان الساحة السنيّة تعاني من استهداف مركز من قوى علمانية لا تؤمن بالاسلام منهجا" للحياة . وتعمل هذه القوى المنغمسة في مستنقع الرأسمالية المتوحشة على مصادرة القرار السني وتوجيهه بحيث يخدم مصالحها وخياراتها البعيدة عن هدي الاسلام كعقيدة وشريعة ومنهج حياة.
وقد عانت الساحة السّنية قي لبنان وما تزال من ارباكات جعلتها غير قادرة على الفعل والتأثير في مجريات الأحداث . ومن اهم هذه الارباكات :
· الأزمة الحركية :
ففي الساحة الاسلامية السّنية اليوم حركات اسلامية متعددة في مقدمها حركة أم هي "الجماعة الاسلامية "
ولكن على الرغم من كون "الجماعة " كبرى هذه الحركات وأعمقها خبرة وأوسعها وعيا" وأفقا" , غير أن ّ الجماعة اليوم وبعد تاريخ حافل بالعمل الحركي والاجتماعي ادخلت مرغمة زواريب السياسات الضيّقة , بحيث استطاعت قوى علمانية رأسمالية وليبرالية ان تستلحقها بمشروعها وتستفيد من تاريخها وحضورها التجديدي في ساحة الصراعات الداخلية , دون ان تترك للجماعة اي مساحة للاستفادة من مكتسبات سياسية ومالية او تسهيلات واسعة تخدم مشروعها الاسلامي بالأساس .
وثمّة اشكاليات داخلية كانت وما زالت تعيق حركة " الجماعة " وتطوّرها واستيعابها لشرائح واسعة من ابناء الساحة الاسلامية السّنية في لبنان ..
من أهم هذه الاشكاليات ظاهرة العقم القيادي وسيطرة الشخصانية والعائلية وفقدان المحاسبة وغياب الشفافية وتعذّر تداول السلطة في البنية التنظيمية المهترئة أصلا" , والمحرومة من أي دم جديد فاعل يحمل رؤية شرعية وفقه واقعي لمواجهة التطورات المتسارعة .
فضلا" عن تسلّل البورجوازية الصغيرة وسعيها للتطوّر نحو الرأسمالية إلى الساحة الحركية وسعيها للاستقطاب والتأثير في الساحة التنظيمية الداخلية ممّا يوقع الحركة في اسار مجموعة من المتسلقين والنفعيين الذين لا همّ لهم سوى جعل وضعهم كمراكز قوى جديدة تنافس الحرس القديم .
هذه الازمة الحركية جعلت الكثير من أبناء الحركة الأم يبتعدون عنها لعدم مقدرتها -في وضعها الحالي – على الاستفادة من طاقاتهم وتوظيفها في خدمة المشروع الغائب في الاصل .
وبالتالي فالشباب السني أصبح يبحث عن خيارات وبدائل عبر السلفية او الجهادية او مغادرة الساحة باتجاه تيّارات اسلامية غير سنية تتمتع بتنظيم وحضور آسر وتحمل مشروعا" مرحليا" واستراتيجية واضحة كمثل حزب الله او الحركات السّنية الدائرة في فلكه . على سبيل المثال حركة التوحيد , جبهة العمل الاسلامي وغيرها .
· أزمة المشروع :
تعاني الساحة الاسلامية اليوم من أزمة مشروع غائب لم تستطع أي من الحركات السّنية استعادة انتاجه رغم تنوّعها ما بين سلفية واخوانية وتحريرية ...الخ .
وعندما أقول مشروع أقصد صياغة مشروع مرحلي قادر على جمع الناس حوله ودفعه للأمام وحمايته .. مشروعا" قابلا" للحياة ونابعا" من صميم الفكر والأصالة الاسلامية .
ربّما مثّلت المقاومة في فترة زمنية مطلع الثمانينات حتى منتصف التسعينات بداية لمشروع قابل للجمع والحياة , لكن ظروفا" خارجية ومحلية وداخلية ضاغطة ابعدت بالساحة الاسلامية السّنية عن هذا المشروع بعد ان تم الخلط المشبوه بين المقاومة والارهاب على الاقل خارج الحدود اللبنانية ..وعندما حالت الظروف دون انخراط السّنية بجدية في مشروع المقاومة في الساحة اللبنانية وتوجه بعضهم ليتابعوا مشروعا" مقاوما" آخر في العراق أو غيره ..لوحقوا وقدموا للمحاكم ولم يجدوا من يهّب لنصرتهم من أبناء ساحتهم أو الساحة الاسلامية عامّة بالجدية المطلوبة..
فانتفض الشباب وتوزعوا على مشاريع نظرية غريبة عن الواقع اللبناني وربما وقع بعضهم تحت براثن تيارات اسلامية متشردة غريبة عن الارض وخصوصيتها .
ما يحتاجه السنّة اليوم أكبر من ميثاق اسلامي يعبّر عن توجّه لفئة أو فئات اسلامية تستنسخ بعضها بعضا" .. الساحة السّنية بحاجة لصياغة مشروع جدّي يحدد اولويـاتها من جديد , ويرسم افق تطلعاتها , ويوضح نظرتها للاصلاح والتغيير بما يلحظ الخصوصية اللبنانية وحظوظ باقي الشركاء في الوطن .
اذ لا معنى لأي مشروع يقوم على الاستفزاز أو الاقصاء أو الاستثنـاء, علينا أن نبحث جديا" عن مشروع يجمع السلفي والصوفي والاخواني وربما التحريري والتبليغي في دائرة من المسلمّـات تنتج خارطة طريق للساحة السّنية , تتناغم فيها هذه التيارات كل من زاويته ..
بل يجب الاتفاق بداية على الاولويات وآليات السير فيها مع حفظ خصوصية كل اتجاه..
ما الموقف من عناوين شتّى .. المقاومة نظرية وتطبيقا" ..الاصلاح ومحاربة الفساد.. المشاركة في الحكم ..الطائفية والمذهبية (العصبيات)..الدولة المدنية او الدينية..العلمانية ...الخ
هذه العناوين وغيرها ربما تشكّل بداية للقاءات متعددة يطرح كل اتجاه اسلامي رؤيته ثمّ يخلص الى صياغة خلاصات ربما تنتج خارطة طريق للساحة الاسلامية السّنية ..وربما ترجعنا الى الوراء على صعيد الغوص في تفسير البديهيات والماء بالماء , المهم ان يكون هناك ديوان حواري حقيقي ممثّلة فيه كل هذه الاتجاهات يناقش عناوين ..ويخلص ربما بعد اشهر لدراسة شاملة للواقع تنتج خطّة قابلة للتنفيذ وخارطة طريق يلتزمها الكل مع حفظ خصوصية الجميع وربما عمق مثل هذا الحوار الانقسام في الساحة السنية ..لا ضير المهم ان لا يضيع المسار وسط زخات من الغبار ..
ما المانع ان يستطيع الباحث تحديد مواقف كل الاتجاهات بدقة لا شك سيخلص الى اشياء يتفق الجميع عليها و اخرى يختلفون عليها , انها طبيعة البشر .. ربما ستكون الساحة اكثر تنظيما" ووضوحا" ويسعى كل طرف لتأطير الناس حول مشروعه ولينتصر المشروع الاقوى ..والتاريخ لا يرحم المهم ان ينطلق الجميع نحو مشروع مرحلي ..واضحة اولوياته ..
ما المانع ان يقول السلفي أن اولوياتي العقيدة والاخواني التربية والتحريري السياسة .. والتبليغي الدعوة ..
لكن ثـمّة ما يمنع من ضياع الاولويات وعدم قدرتها على انتاج مشروع يشترك فيه الجميع , لأن الخطر دقيق ومحدّق ..
قد يختلف السلفي في أولوية المقاومة ومن يقوم بها ومدى ثقته به..
لكن لا يجوز ان تموت الروح الجهادية في الامة لخطأ توهمناه في ممارسة البعض لها ..
قد لا يوافق التحريري على تداول السلطة لكن عندما نتكلم عن مشروع مرحلي لماذا لا يفكّر أو يحاول اعادة انتاج نظريته بعد خلخلة الموانع النظرية تحت تأثير الضغط الواقعي لساحة خاصة وسط ظروف خاصة.
· أزمة الهوية :
ساحتنا الاسلامية السنية تعاني اليوم من مشكلة عنوانها "فقدان الهوية " .. وما اصعب أن تفقد ساحة هويتها..ورحم الله امرءا" عرف حدّه فوقف عنده !!
قال ابو ماضي :"جئت لا أعلم من أين ولكنّي اتيت ..ولقد أبصرت أمامي طريقا" فمشيت !! ساحة السنية اليوم تتعرض لخطر عظيم عنوانه استلاب الهوية وفقدان الثقة في النفس, ليس هذا فحسب بل ان اخطر ما في الامر . .ان يتم تزوير تاريخها بشكل بشع ..
هي ساحة تمثل الثقل الاسلامي بمحيطها واتساعه ,وتاريخها ونصاعته ,وريادتها وفرادته ,ورغم ذلك يريد لها بعضها أن تنفصم عراها مع ماضيها لتنـزف في مستقبلها وتتآكل من داخلها .. عندما تختصر بنماذج بائدة ومسوخ حاقدة وتحترق بنيران حاقدة ملؤها الحقد والكراهية والتنكّر لتاريخها الجهادي الرائد.
هل يعقل أن يتعطّل العقل لصالح الغباء والجهل ؟؟! هل يعقل أن تنعدم القادة في زمن "الرفادة" .. ثمّة من يريد اختصار هذه الساحة في رموز وزعامات ساقطة في ميزان الله وقانون الناس .
ورغم ثراء هذه الساحة بالمفكرين والعلماء والقادة لكن ظهورهم يكاد يكون مغيبا" لفرقتهم , وتنكب جماعتهم عبر صراط الله المستقيم ودخولها ميدان السبل المفرّقة واجتماعها في ظل المستكبرين والكبراء واتكائها على حائط دعم مائل نحو جرف يكاد يهوي بأصحابه ومن يتّكىء عليهم.
ان تعرف الساحة نفسها تلك طريق البداية .."فانظر الى نفسك ثم انتقل للعالم العلوي ثم السفلي تجد به صنعا" بديع الحكم لكن به قام دليل العدم" , لكن ما العمل اذا كان هناك من يعمل جاهدا" لاخفاء الصورة الحقيقية لصالح صورته الضيقة المستتبعة لأهواء الذين لا يعلمون وشهوات الحاقدين على الأمة ونهضتها وفجرها القادم .
وبالتالي فان أيّـة محاولة لاستنهاض هذه الساحة ووضعها على الطريق الصحيح يحتاج الى ادراكها لماهيتها وأهميتها وتحرّكها المنظّم باتجاه الفعل والتأثير في مجريات داخلها ومواكبة تطورات خارجها ومحيطها .
· أزمة المرجعية:
وهي أزمة محورية أساس من الصعب جدا" أن تتحرك ساحة في فراغ لا يقودها رائد كبير لا يكذب اهله ..ساحتنا اليوم حائرة بين مرجعيات دينية مستتبعة , وأخرى حزبية مستلبة ومستلحقة ,وشخصيات وقوى دينية وسياسية وحزبية أقرب الى جراثيم تنشر ثوماق الوباء من ترياق الداء.
ما الحلّ؟ وكيف يكون الخلاص ؟..لا بدّ من مرجعيات حرّة ومتحررة تستهدي بنور الشرع الشريف ,مرجعيتها الكتاب والسنّة وسيرة الآل والصحب والعلماء العاملين من سلفنا الصالح .
لا يمكن الانقياد لمرجعية تنقاد لزعيم أكثر ممّا تنقاد لرب العالمين ..
حبّ الله وحبّ المال لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن ..
لا يجوز أن ننقاد كالقطيع خلف مجموعة باعت تاريخها ورهنت حاضرها وراهنت على بيت سياسي أوهن في ضعفه من بيت العنكبوت ..
ثمّة امور قد تصحّ في السياسة لكنها لا تصحّ ولا تجوز شرعا" , عندما نختلف على المرجعية ما المقياس؟ ..اذا كان تعريف أو توضيح الواضحات من أشكل المشكلات ..
الساحة بحاجة لانتاج مرجعيات تتحلّى بشروط الولاية مخالفة لهواها مطيعة لأمر مولاها عزّ وجلّ , لا تخشى في الله لومة لائم تبيّن للناس الحق وتأطرهم أطرا" لاتباعه ..ولا تلّبس الحقّ عليهم وتكتمه وهي تعلمه علم اليقين !!
ورحم الله شيخ الاسلام "مصطفى صبري " آخر شيخ في الاسلام في دولة بني عثمان حيث قال :" انّ العلماء المعتزلون السياسة كأنّهم تواطأوا مع الحكام صالحهم وظالمهم على أن يكون لهم الأمر (أي الحكام ) ويكتفوا منهم (أي العلماء المعتزلون) برواتب الانعام ومواكب الاحترام ..
فكيف اذا كان العلماء – بل بعضهم – من كبار تجّار الدين والسياسة والهوى!!!
ورحم الله من قال من هوى... فقد هوى !!!..